الثورة بين أهل الثقة وأهل الخبرة

05:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

مازلنا نتذكر ما جرى توصيفه في منتصف خمسينيات القرن الماضي تحت مسمى أزمة المثقفين حيث تناول الصحافيون والكتاب التفرقة بين أهل الثقة وأهل الخبرة، على اعتبار أن ثورة يوليو 1952 قد استبدلت بأهل الخبرة في المجالات المختلفة، من تعدهم من أهل الثقة وتضمن ولاءهم لمجلس قيادة الثورة حينذاك، وقد كان معظم من استعانت بهم من العسكريين مع بعض المدنيين الذين التحقوا بقطار الثورة في أول عربة من أمثال عزيز صدقي ومصطفى خليل وسيد مرعي وغيرهم، وليس ذلك جديداً على الثورات فهي دائماً تقوم بعملية استبعادٍ تلقائي لا لمن تظنهم خصوماً لها فقط، ولكن أيضاً لمن ترى فيهم رموزاً لعهدٍ مضى وذلك قد يكون تفكيراً مشروعاً، إلا أن هناك محاذير تحيط بهذا الأسلوب من التفكير النمطي الذي يحتاج إلى مراجعة على ضوء الأوضاع القائمة مع كل ثورة والظروف المحيطة بها على مستوى الدولة . ولم تخرج ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 عن هذا السياق التقليدي للثورات المعاصرة أو حتى الانقلابات العسكرية الطارئة، ولكننا نتدارك هنا قائلين إن أهل الخبرة يمثلون تراكماً معرفياً يرتبط بمصر الدولة بينما قد يمثل أهل الثقة تراكماً وطنياً محسوباً على الثورة . ولعلي أسجل بداية أنني من غير المتحمسين لإطاحة كل من عمل مع النظام السابق مؤمناً بأن من شارك فيه ليس بالضرورة فاسداً، لأن هناك فارقاً بين فساد العهد وفساد كل المشاركين فيه، إذ ليس كل من تعامل مع نظامٍ فاسد هو فاسد بالضرورة، خصوصاً إذا كان ذلك النظام قد استمر لأكثر من ثلاثين عاماً كاملة متجاوزاً العمر الافتراضي لأنظمة الحكم المعاصرة، كما أن كثيراً من النظم الفاسدة قد تتحلى ببعض الرموز الوطنية وتقبل منها هامشاً للمعارضة تدرأ به الهجوم عليها وتجد في الإبقاء عليهم تجميلاً لصورتها وتحسيناً لدورها، لذلك يهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

* أولاً: أخشى أن يمتد بشبابنا حماسهم الثوري على نحوٍ يؤدي إلى تفريغ كثيرٍ من مؤسسات الوطن وهيئاته من قياداتٍ ذات خبرة مشهودة أو عناصر ذات كفاءة معروفة، بدعوى أنهم كانوا شركاء في نظام مبارك أو تعاونوا مع بعض رموزه في مراحل معينة . وهنا لا بد من وقفة موضوعية عادلة، إذ لم تكن الصورة واضحة كما نراها الآن ولم تكن الحقائق قد تكشفت على النحو الذي نشهده حالياً، فلم يكن حجم فساد ذلك النظام معروفاً بهذه الدرجة ولم نكن ندرك أيضاً خواء مؤسساته السيادية والسياسية والأمنية على النحو الذي جرى كشفه مؤخراً، بل إنني أزعم أن الكثيرين ممن تعاملوا مع ذلك النظام قد عبروا في مناسبات كثيرة عن معظم شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير بطرقٍ مختلفة لا تخلو من الرمزية أحياناً والتغليف الدبلوماسي غالباً، خشية بطش النظام وابتزازه لسمعة كل من كان يقف في طريقه، بل إنني حين أراجع مقالاتي المنشورة في السنوات العشر الأخيرة أجد فيها ما يدهشني من أن تلك الأفكار والعبارات قد مرت مع تدفق المياه الوطنية تحت جسور نظامٍ كان مترهلاً بفعل التزاوج بين الفساد والاستبداد، أي بين الثروة والسلطة، وهو ما أشرنا إليه في مناسباتٍ عديدة قبل اندلاع ثورة يناير الشعبية بسنوات .

* ثانياً: كان النظام السابق يتمتع بقبضة أمنية غاشمة وأساليب تحتية للإساءة إلى كل من يحاول الخروج عن الخطوط العريضة له ورؤيته الضيقة التي أدت إلى تراجع دور مصر الإقليمي ومكانتها القومية بصورة كانت مصدر خجل لنا عربياً ودولياً، ولقد عبرت شخصياً عن ذلك في محاضرة عامة قلت فيها بالنص إن الرئيس مبارك لا يهتم بالدور الإقليمي لمصر ولا تعنيه قيادتها القومية وقد اتخذت صحيفة البديل التي أسسها وأدارها الراحل د .محمد السيد سعيد من هذا التصريح عنوانها الأساسي وكان الثمن غالياً، إذ تبارى كتاب الصحف المسماة بالقومية وقتها يلعنون صاحب التصريح ويشهرون بتاريخه بشكلٍ مبتذل للغاية، حتى إن رئيس تحرير إحداها جعل صفحته الأولى سجلاً حافلاً بالسباب والشتائم والعبارات القذرة ضدي فقمت بتقديم بلاغٍ فوري للنائب العام ومازالت القضية أمام النيابة العامة لم يتم حفظها حتى الآن، وقد اكتشفت أن ذلك السباب كان جزءاً من حملة جاءت بتعليماتٍ مباشرة من الرئيس السابق، حتى إنه قال لرئيس تحرير تلك الصحيفة في مناسبة عامة (حسناً ما فعلت بل وأرجو منك المزيد)، وهكذا كان يتعامل النظام الذي سقط مع جميع الرموز الإصلاحية في داخله وهم الذين توهموا أن التغيير من داخل إطار النظام قد يكون مكملاً لضغوط المعارضة من خارجه .

* ثالثاً: إن الحديث عن أهل الثقة والخبرة يقتضي دراسة كل حالة على حدة والتوقف عن التعميم الظالم، ومحاولة فتح صفحة جديدة أمام العناصر غير المتورطة في جرائم يدينها قضاء مصر المعروف بالعراقة والشموخ ورفض الضغوط والإملاءات في مختلف الظروف . ولنتذكر دائماً أننا أبناء وطنٍ واحد لا تحتكر فيه الوطنية المصرية جماعة دون غيرها، كما أن لكل عصر ظروفه ولكل عهدٍ ملابساته، وليس كل من مر ب ميدان التحرير قد أصبح ثائراً، وليس كل من تخلف عن الخروج أضحى خائناً! ولنتذكر أن النظام السابق قد قام بتجريف الدولة من كثير من كفاءاتها وتعويق مسيرة المتميزين فيها بحكم مركّب النقص الذي كان يقبع في أعماق رموزه، فيدفعهم إلى إطاحة كل صاحب فكر مهما كان انتماؤه . ولنتذكر أن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثال الرفيع في جمع الكلمة ولم الشمل، حتى وصل به الأمر إلى القول إن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام ولم يقم بعملية انتقامٍ انتقائية أو عملية فرزٍ تحكمية، بل دعم الإسلام الحنيف بكل من قبل الدعوة وانضوى تحت لوائها .

. . خلاصة ما أريد أن أذهب إليه من هذا المقال الشائك، هو أن ألفت النظر إلى ضرورة الحذر عند التفرقة بين أهل الثقة وأهل الخبرة حتى لا تخسر مصر الدولة بعضاً من أكفأ أبنائها، بينما لن تربح مصر الثورة من فقدانهم شيئاً، والعبرة في النهاية تكون بالولاء لتراب الوطن . . ولن نستبدل أبداً بخوفنا السابق من ديكتاتورية انهارت، خوفاً جديداً من مصدرٍ مختلف مهما كانت الظروف والتحديات، فمصر لأبنائها الشرفاء بغير تفرقة أو استثناء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"