أسئلة الهويّة في العالم العربي

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

منذ بدايات القرن الماضي، راحت أسئلة الهويّة تطرح نفسها على العرب، مجتمعات ومفكرين وسياسيين، وشكّلت العلاقة مع الآخر الغربي الصدمة الكبيرة، التي فجّرت معها مسائل تاريخية وفكرية، وحتى معيشية، فقد وضع العرب (بصيغة العموم)، أنفسهم مقابل الآخر، وفي مرآته، ما جعلهم يعيدون اكتشاف الذات، ويحاولون تعريفها، ولئن كانت تلك العملية قسريّة بطبيعتها، إلا أنها فتحت أمام العرب مخاطر وتحديّات كبرى، لا تزال تفعل فعلها لغاية يومنا هذا، بل إن بعض المخاطر عادت أكثر حدّة من ذي قبل.
في تعريف الهويّة نفسها ثمة عقبة معرفية، وهي عقبة لا تخصّ شعباً من دون آخر، بل هي عقبة بنيوية تكمن في تعريف الهويّة، فإذ كانت الهويّة تستند إلى الماضي، وما يحمله من مشتركات، إلا أنها لا يمكن أن تكون ثابتة ولا نهائية، وإلا فإنها ستؤول إلى التحجّر، وتصبح هويّة متحفيّة، فلكلورية في أفضل الحالات، وغير قادرة على التكيّف مع متطلبات التطور، وتلك العقبة المعرفية تفرض من تلقاء نفسها جدل العلاقة بين الثابت والمتحوّل في الهويّة، وهو الجدل المطلوب لإبقاء الهويّة في حراك الحاضر والمستقبل، أي في فضاء الحيويّة.
نبش مفكرو عصر النهضة العربي فيما بين أيديهم، أي في المعطيات التي يقفون عليها، من عقيدة وتاريخ ولغة وتراث، كما حاولوا، بما يمتلكونه من أدوات معرفية، وهي لا شك كانت قاصرة، نظراً للفقر المنهجي في ذلك الوقت، أن يضعوا تعريفاً للآخر، ضمن الشرط التاريخي، فالآخر هو المستعمر، المتفوّق معرفياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وبناء عليه، فإن مفكري عصر النهضة الأوائل لم يكن بمقدورهم تعريف الذات والآخر خارج نطاق العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، بكل ما تطرحه مثل تلك العلاقة من إشكاليات، من بينها الإحساس بالدونية، أو الغلو في تقدير الذات.
لم ينجُ الفكر العربي، خلال مسيرة قرن، من مطب المرجعيات الناجزة، أو على الأقل من تراتبية العلاقة بين مكونات الهويّة، فاستمرت العروبة والعقيدة، في الاشتغال الفكري حول الهويّة، كمرجعيتين ناجزتين، حتى أن جزءاً من تاريخ العرب المعاصر تحوّل في جزء مهم منه إلى صراع بين المرجعيتين، مع تجاهل كبير لكل القضايا الكبرى التي لا يمكن تعريف الهويّة من دونها، بل وقد جرى تخفيض في مكانة تلك القضايا، كما في العلاقة بين الهويّة والحريّة، أو العلاقة بين الهويّة والمعرفة.
في السياق السياسي العربي، حدثت مفارقات كبرى، كارثية في مآلاتها، فقد وضعت الحدود، على سبيل المثال لا الحصر، بين الهويّة وبين شروط نموها الضرورية، وصار الدفاع عن الهويّة في كثير من الأحيان نقيضاً لوجود حواملها، وتمّ استثمارها من أجل التجييش والتجييش المضاد، في معركة اكتساب الشرعية السياسية، بعيداً عن المضمون الحقيقي للمشتركات التي تحملها الهويّة، وهو ما أفقر، ليس فقط المجتمع، بل أحدث نكوصاً عن اللحظة التاريخية التي كان يمكن استثمارها من أجل جعل الهويّة عامل توحّد مجتمعي، وعامل صعود وارتقاء.
لقد انتصرت الهويّة المتحفيّة على الهويّة الحيّة والمتحركة، وأصبحت عاملاً ذرائعياً للتبرير السياسي، وهو ما يؤكده النكوص في العالم العربي، وصعود الهويّات الفرعية في غير مكان من هذا العالم، ليس لأن الهويّات الفرعية هي الخلاص، بل لفشل عملية بناء الهويّة الحيّة، بعد أن تمّ خنق حيوية المجتمعات، وخنق كل القيم الضرورية لبناء مشتركات الهويّة، وهو ما يفسح المجال من جديد أمام القوى الخارجية في إعادة ترتيب مصالحها على أنقاض الدول الوطنية العربية، خصوصاً مع تفتت عدد من الدول العربية، وتحوّلها إلى دول فاشلة، تعجّ بصراعات مسلحة بين أبناء البلد الواحد.
لا شك في أن مسيرة قرن من طرح أسئلة الهويّة في العالم العربي، تشير إلى إخفاق في تقديم إجابات معرفية وعملية عن الهويّة، وعلاقة الذات بالآخر، كما أنها تشير إلى عدم جرأة حيناً، ومكابرة حيناً آخر، بما يتعلق بطرح الحقائق كما هي، من دون أيديولوجيا، لكن الجرأة في مساءلة الذات تحتاج إلى مناخات تتمتع بمستوى من الحرية، وعدم وضع سقف أمام الأسئلة الحقيقية المرتبطة بوجودنا، في الوقت الذي تبدو فيه مشتركات الهويّة منتهكة ومتمزقة في غير بلد عربي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"