إنهم يحاولون إحباطنا

03:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

يحار الإنسان أمام بعض مواقف قلُّة من الكتاب والمثقفين العرب تجاه ما حدث في بلاد العرب عبر السنوات العشر الأخيرة. فمواقف التشكيك والاتهام والتجريح، وبالتالي الدّفع المتواصل نحو اليأس والقنوط، تجاه حراكات وانتفاضات جماهير الشعوب العربية في شتّى أقطار الوطن العربي تطرح الكثير من الأسئلة المحتارة في ذلك المشهد.
لنأخذ أولاً مثال الاختلافات حول تسمية ظاهرة الانتفاضات الجماهيرية المليونية العربية، بكل تجلياتها وألوانها الإيديولوجية وأحجامها المختلفة وتلاوين قياداتها. فالبعض يسخر من تسميتها بالربيع العربي ويشير باستخفاف إلى أن بعضها كان شتاء عربياً والبعض الآخر يقول بأنها كان خريفاً.
فهل حقاً أن التسمية هي بتلك الأهمية؟
ليس من شك بأن بعض الانتفاضات تميزت بهبوب نسائم نشدان الحرية وتفتّح زهور الشعارات السياسية الفكرية الواضحة وبزوغ شمس ديمقراطية أكثر ضياء وأحسن تألقاً.
لكن ليس من شكّ أيضاً بأن بعضها كان شتوياً عاصفاً، مليئاً بالرّعد والبرق والفيضانات المدمرة. وبعضها تميّز بتساقط أوراقه الخريفية المذهلة.
إزاء تلك الفروقات الطبيعية فيما بين الانتفاضات العربية، ألا تشير تلك النقاشات المستمرة المملُّة حول التسمية إلى عبثية كلامية ومماحكات لغوية لاتقدُّم ولا تؤخّر؟
لنأخذ ثانياً الجدل حول ما إذا كان الذي حدث كان ثورات أم انتفاضات أم حراكات. أليس ما حدث في كثير من مجتمعات العرب، صعوداً وهبوطاً، نجاحاً وانتكاساً، مؤقتاً أو مستمراً، شمل في مختلف مراحل مسيرته أحياناً صفة الثورة وأحياناً صفة الانتفاضة وأحياناً الحراك؟ بل أكثر من ذلك، هل يحقُ لنا أن نتجاهل دماء المنتفضين التي سالت، وموت الألوف الذين ضحُّوا، والملايين الذين هجُّروا، عندما يتجرأ البعض على وصف ما حدث بالخرافات، أو العبث، أو المغامرات؟
لنأخذ، ثالثاً، إصرار البعض على اعتبار أن كل ما حدث (لاحظ كل ما حدث) كان بوحي من الخارج، وعلى الأخص بوحي من بعض الدوائر الاستعمارية والاستخباراتية الأمريكية. يستطيع الإنسان أن يتفهّم ويقبل بأن بعض ما حدث في أرض العرب كان بوحي، أو بتخطيط مسبق أو بتآمر استخباراتي من قبل أمريكا أو الكيان الصهيوني، أو حتى من بعض دول الإقليم. وهذا بالطبع ابتليت به كل الحراكات الجماهيرية الثورية في العالم كله، وليس خاصية عربية معينة. فالقوى الاستعمارية الاستغلالية لا يمكن أن تتعايش مع نسائم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ولكن هذا شيء، وشيء آخر أن يتمّ من قبل البعض نكران المشاعر والغضب والجهود والتنظيمات والتضحيات الذاتية العربية، وعلى الأخص ما فجّره شباب وشابات الأمة العربية من مشاهد نضالية سياسية أبهرت العالم كله. إن ذلك النكران ليس فقط أنّه يعبًّ عن اتهام باطل ظالم حقير، وإنما هو قمة الكذب المتآمر على كل الحياة السياسية النضالية الديمقراطية العربية، حاضراً ومستقبلاً.
رابعاً، لا يكتفى بعض هؤلاء بتلك الحملة الظالمة على أحلام وطموحات شباب هذه الأمة، فيضيفون إليها حملة علاقات عامة تنادي بمصالحة وتطبيع مع الاحتلال ، الذي يحتل أكثر من ثمانين في المائة من فلسطين العربية ويرفض رجوع الملايين من سكانها العرب لبيوتهم وقراهم التي عاشوا فيها عبر الألوف من السنين، والذي يقتل ويسجن ويعذّب ويهجُّر كل من يقف في وجه ممارساته اللاّ إنسانية. لكّأنّ هؤلاء يريدونها تآمراً على كل قضية شعبية قومية وانهزاماً أمام كل طاغية ومجرم في الخارج والّداخل.
خامساً، وفي الوقت الذي يفعل هؤلاء كل ذلك بكل جهد تبذله أمتهم للتحرر من كوابيس التدخّلات الأجنبية لتمزيقها وتجزّئتها، ومن الفساد واللاّ مساواة والطائفية المذهبية السياسية، ومن التخلّف الحضاري، فإنهم يقفون ضد وحدة أمتهم وانتقالها إلى الديمقراطية العادلة.
نحن أمام محنة أخلاقية ضميرية فكرية. أولئك القلّة من الكتاب والمثقفين لا يتركون فرصة أو منبراً إعلامياً أو اجتماعاً عاماً إلا ويستعملونها لحملات الاستهزاء والتثّبيط، وخلط الأوراق ونبش التاريخ، وإثارة الجنون الطائفي ومظالم الأقليات، حتى تبقى الأجيال العربية، جيلاً بعد جيل، في جحيم المشاعر والأفكار والطموحات المتناقضة المبهمة غير القادرة على تغيير الواقع.
المطلوب هو أن لا يسكت الكتاب والمثقفون العرب، المتعاطفون مع طموحات أمتهم في الوحدة والتحرر والعدالة والتمُّدن واللّحاق بالآخرين، لا يسكتون عن مقاومة تلك الحملات الظالمة التي لا تهدأ ولا تخجل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"