«أوراق بنما».. حاميها حراميها

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

بتنا نعيش في عصر الفضائح في عالم تسيطر عليه الرأسمالية المتوحشة. فبعد كل أنواع الـ«ليكس»، من ويكيليكس بداية ثم «سويسرا ليكس» و«بنما غيت» و«لوكسمبور ليكس» و«أوفشور ليكس» وغيرها، فضيحة جديدة تهز الرأي العام العالمي. أكثر من 11.5 مليون ملف (ما يعادل 1500 مرة حجم وثائق ويكيليكس) تم تحويله، في ٣ إبريل/نيسان المنصرم،من «شخص مجهول الهوية» إلى 107 وسائل إعلامية عالمية تؤلف ما يسمى «الكونسورتيوم الدولي لصحفيي التحقيقات» تكشف أن أكثر من 140 شخصية عالمية في مجالات السياسة والفن والرياضة والأعمال والكتابة وغيرها، زبائن لمكتب المحاماة الدولي «موساك فونسيكا» في بنما المتخصص بإنشاء شركات أوفشور في جنات ضريبية على مساحة العالم الواسع.
هذه الملفات تحتوي على أسرار خطيرة لم تُذَع بعد فحجمها هائل،الأضخم في تاريخ الفضائح إلى اليوم، ومعالجتها التي تجري حالياً على أيدي 370 صحفياً مختصاً بالتحقيقات تتطلب أشهراً طويلة من العمل الشاق. لذلك فالأرجح أن آلاف الأسماء المتورطة سوف تظهر تباعاً وأن تكون التداعيات خطيرة.
تسريبات بنما «التاريخية» بكل المعايير تكشف لنا بأن مكتب موساك فونسيكا البنمي ليس إلا حلقة في صناعة ضخمة تستخدم،في نيويورك ولندن أو سنغافورة، آلاف الشبان من حملة الشهادات من أرقى الجامعات العالمية، بهدف ابتداع أفضل الطرق لحماية الثروات الضخمة والعمل على تنميتها وزيادتها بعيداً عن أعين الرقابة ومصلحة الضرائب.
بالطبع حماية الثروات نشاط قديم جداً، لكنه عرف ازدهاراً ملحوظاً منذ ثمانينات القرن المنصرم عندما تمكن من استكشاف طرق عديدة خاصة للحماية من الضريبة، منها ما هو شرعي، كاستخدام المآوي الضريبيـــة وما هو غير شرعـــي مثل فتح شركات وهمية وحسابات أوفشـــور غير مصرح عنها. تســـريبات بنما تكشف عن وجود نخــــبة صغيرة تمتلك وسائل متطـــــورة ومتنوعة لتنمية وحماية ممتلكاتها مع تهربها من الضرائب، في وقت تضطر الأغلبية الشعبية الواسعة من دفع ضرائب جد مرتفعة.
الملفت أنه في قلب النظام المالي العالمي ثمة تمييز أساسي ولو غير واضح ما بين الثروة الشرعية وتلك غير الشرعية. والتشريعات ضد تبييض الأموال تفرض على المؤسسات المالية أن تحدد هوية زبائنها وتمنع عليها أن تغطي أموال مهربي المخدرات والمجرمين والفاسدين ومبيضي الأموال. لكن تسريبات بنما تبين بأن عدداً من المؤسسات الموجودة في الجنات الضريبية لا تهتم البتة بمثل هذا التمييز. بالنسبة لها كل زبون هو مهم وينبغي التعامل معه طالما أن في جعبته مالا وفيرا. ففي العام الماضي وحده من أصل 14.86 شركة وهمية أسستها في جزر سيشل لم تكن موساك فونسيكا تعرف هوية المستفيدين الفعليين إلا لـ204 فقط من هذه الشركات.
منذ بداية مكافحة تبييض الأموال في عام 1989 تم ابتداع قواعد لذلك ودفع عدد كبير من الدول للانضمام إليها، كما تم إرسال مفتشين، من وقت إلى آخر، للتحقق من تطبيق هذه القواعد والقوانين. ومع الوقت تطورت كثيراً قواعد وأنظمة مكافحة تبييض الأموال، ولكن التسريبات البنمية تبرهن بأن القواعد الأساسية - تحديد المستفيدين الفعليين- يجري خرقها باستمرار. ذلك أن هناك الكثير من المال الذي يمكن كسبه عبر مساعدة المهربين والمبيضين والقليل مما يمكن خسارته في غياب عقوبات دولية حقيقية.
إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من الأزمة المالية العالمية والفضائح المتكررة فهو أن كثيراً من اللاعبين الدوليين لا يترددون في خرق القوانين طمعاً بمال وفير يمكن أن يكسبوه. وثروات الشركات الوهمية لا توجد فقط في بنما أو الجزر العذراء أو سيشل، بل يجري استثمارها في قطاع العقارات في لندن أو نيويورك وفي السندات الفرنسية والألمانية مثلاً. التنظيم المالي الدولي ومكافحة التفاوت يقضيان بتحديد المستفيدين الفعليين من هذه الثروات،وهم كما كشفت أوراق بنما أصحاب القرار في دول متقدمة ومنهم رؤساء جمهورية وحكومات ووزراء ومديرو شركات كبرى ...الخ. انهم باختصار أصحاب القرار السياسي والاقتصادي على مستوى العالم. وهذا يكشف أسباب تباطؤ هؤلاء في إصدار تشريعات فعالة ضد التهرب الضريبي. وعلى خلاف الفضائح السابقة فإن «أوراق بنما» لا تتعرض إلى مؤسسة واحدة أو مصرف بعينه، بل تلقي ضوءاً غير مسبوق على طريقة عمل بقيت سرية إلى الآن داخل النظام المالي العالمي وتقدم الدليل القاطع على أن الغش والخداع هما الأساس الذي تقوم عليه الرأسمالية المعولمة.
أخبرتنا أوراق بنما أن موساك فونسيكا أسست أكثر من 214 ألف كيان أوفشور وشركات وهمية تسمح باخفاء هوية مالكيها من خلال 21 جنة ضريبية مختلفة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر تبين بأن الجبهة الوطنية الفرنسية صاحبة شعار «أيدي نظيفة رأس عال» متورطة في فضيحة بنما، وهي التي يقوم خطابها السياسي على الوطنية والانتماء والمواطنة و... مكافحة الفساد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"