روسيا الباحثة عن «أمجاد الماضي»

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا استثناء فرضته ضرورة إنقاذ النظام السوري، بل حلقة في استراتيجية أوسع تتبناها موسكو للعودة إلى المنطقة، واستعادة حضورها التاريخي أو على الأقل جانب منه. من وجهة نظر الكرملين طالت فترة الغياب عن المنطقة أكثر مما يجب، وأكثر مما تحتمله المصالح الروسية العليا. ومن ثم حان الوقت لإصلاح هذا الخطأ الجسيم. ومادام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصراً على استعادة المجد الزائل لبلاده، وإحياء دورها العالمي كقوة عظمى، فلا مناص من العودة إلى الشرق الأوسط، وطرق أبوابه ولو بالقوة المسلحة.
ظل الكرملين في عهوده المتعاقبة سواء القيصرية أو الشيوعية أو الجمهورية الحالية على وعي تام بأهمية المنطقة للمصالح الروسية. وبلغت ذروة الوجود الروسي إبان خمسينات وستينيات القرن العشرين حينما امتدت مناطق النفوذ والقواعد من العراق شرقاً إلى الجزائر غرباً مروراً بليبيا ومصر وسوريا واليمن الجنوبي. ويعتبر بوتين أن معاودة التمدد في المنطقة معركة لا مفر منها في إطار حربه الكونية مع الولايات المتحدة سعياً وراء النفوذ والمكاسب من ناحية، واستعادة المكانة والدور والسمعة الدولية لروسيا من ناحية أخرى. ولا تقود التحرك الروسي هذه المرة الدوافع الأيديولوجية، كما كان الحال في الماضي. ولكن مجموعة من الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية الواقعية.
على الجانب السياسي اعتمد بوتين دائماً على تقديم نفسه للشعب باعتباره البطل الذي انتظرته بلاده لاستعادة مجدها، والدفاع عن كرامتها الوطنية الجريحة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. ولم يتوقف قط عن إشاعة الخوف الداخلي من المؤامرات التي يحيكها الغرب. ضمن بوتين بهذا التكتيك تعزيز شعبيته، وتشتيت الاهتمام الداخلي بالأزمات والإخفاقات المحلية انشغالاً بما هو أهم وأخطر مما قد يأتي من وراء الحدود. لذلك فإن مواصلة خوض معارك أو مواجهات خارجية، وتوسيع مناطق النفوذ يحقق أهدافاً داخلية مهمة لبوتين.
خارجياً تسعى روسيا إلى زيادة وجودها في المنطقة في إطار منافستها التقليدية مع واشنطن. وضمان وجود صوت لها عند اتخاذ القرارات المهمة، إضافة إلى امتلاك أوراق ضغط للمساومة بها على صفقات سياسية مع الغرب. وبالفعل نجحت في توظيف علاقاتها مع سوريا وإيران لتحقيق ذلك. كما سجلت الدبلوماسية الروسية نجاحات أخرى مثل إعادة الدفء للعلاقات مع السعودية ومصر والعراق والمغرب وتونس. وتطوير تعاونها مع «إسرائيل» ومع أكراد العراق وسوريا. والإخفاق الوحيد الذي منيت به هو تركيا.
ويأتي التعاون العسكري كمحصلة منطقية للتعاون السياسي والاقتصادي. ولا يقتصر الأمر على مبيعات الأسلحة، بل يمتد إلى التدريب والمناورات المشتركة وحتى التدخل المباشر كما حدث في سوريا. ولا يستبعد أن يتكرر في بؤر ساخنة أخرى بذريعة الحرب على الإرهاب أو أي سبب آخر.
ولدى موسكو أسبابها المحلية الخالصة التي تدفعها إلى اليقظة التامة في مراقبة «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية والتدخل ضدها مباشرة إذا لزم الأمر. يرجع ذلك إلى خوفها من نجاح تلك التنظيمات في التواصل مع الكتلة الإسلامية الكبيرة في الداخل الروسي والتي تنتشر بينها حالة من الاحتقان ضد الكرملين. الخوف الروسي هنا له ما يبرره خاصة مع تواتر أنباء عن تسلل بعض المقاتلين إلى سوريا قادمين من الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة في الاتحاد الروسي والتي تمتد من الشيشان وداغستان في شمال القوقاز وحتى تتارستان وباشكورتوستان في حوض نهر الفولغا. وتمثل هذه الكتلة المسلمة نحو 12% من تعداد روسيا كلها. ونجاح «داعش» في اختراقها يمثل كارثة أمنية خاصة مع وجود ملايين المهاجرين من تلك المناطق في المدن الروسية المختلفة.
ثمة هدف نفسي وراء التمدد الروسي في الشرق الأوسط يضاف إلى ما ذكرناه من أهداف سياسية واقتصادية وأمنية. ذلك أنه مع سعي موسكو لاستعادة هيبتها ومكانتها في العالم، فإنها تأمل في استرداد ثقة أصدقائها السابقين، وتبديد الأثر السلبي لفشلها في حمايتهم من العدوان الأمريكي.
تدرك موسكو جيداً صعوبة مهمتها. وهي تستغل إلى حد كبير وبنجاح ملحوظ حالة الانكماش التي تمر بها السياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما، غير أن الوضع قد يتغير قريباً بعد رحيله. في كل الأحول ليس أمام بوتين سوى اقتناص الفرص المتاحة، والتقدم لملء الفراغ الذي يوجده الغياب الأمريكي. ووضعه عموماً ليس سيئاً فإذا لم يحالفه الحظ بمزيد من المكاسب فليس لديه ما يخسره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"