شهر بلا شياطين ولا دماء

03:40 صباحا
قراءة دقيقتين
د.عبدالعزيز المقالح

هي أمنية ليس بعزيز على خالق الشهر أن تتحقق ويسود السلام أيامه ولياليه ويتوقف نزيف الدم العربي الذي يكاد يغطي كل شبر من الأرض العربية الواقع بعض أجزائها في أيدي شياطين الفتنة والدمار. وما أجدر شهرٍ تصوم فيه أفواه المسلمين عن الطعام أن تصوم أيديهم عن الشر والأذى وأرواحهم عن الحقد والكراهية. كما أن شهراً واحداً من العام كافٍ - إذا صدقت التجربة - ليشكل مدرسة روحية تضمن للإنسان المسلم حياة آمنه مطمئنة وتضمن لجسده المثقل بالتراكمات صحة ونقاءً وعلاجاً لا مكان معه للأدوية ومخاطرها ومضاعفاتها، وما يترتب على دوام استخدامها من اختلال في أعضاء البدن السليم والعليل على حد سواء من تدمير خلايا المناعة وتناقص مفعولها المقاوم للأمراض.
ومنذ «ابقراط» الحكيم وعبر تعاليم الأديان السماوية كان الصوم هو أفضل وسيلة لمعالجة أوجاع الإنسان، والبديل عن الأدوية التي زادت وتطورت واتسعت أسماؤها باتساع المصانع التي تتاجر بالآم البشر وتتفنن في عرض منتجاتها معتمدة على ضحاياها من سكان المدن في حين بقيت بعض الأرياف وفي الشعوب التي يقال «متخلفة» في منأى عن هداياها السامة، وحيث لا يزال الصوم أو الحِمية هما العلاج الطبيعي الخالي من المضاعفات والمؤثرات الجانبية. وتلك رحمة من الله أن يجعل الصوم فريضة وعبادة تتحرر به الأبدان وترتقي الأرواح ونتذكر ما يقال من أن درهم وقاية خير من قنطار علاج، بما لا يكلفه مالاً ولا يجعله بحاجة إلى الذهاب إلى عيادة الطبيب أو دخول المستشفيات.
وفي الحيوانات عبرة فهي لا تعرف الأطباء ولا تؤمن بالأدوية وهي تمتنع عن الأكل يوماً في الأسبوع أو أكثر بوازع ذاتي، والقطط التي تعيش معنا في منازلنا تمارس هذه التجربة العلاجية الوقائية، ومهما حاولت إغراءها بما لا تحلم به في سائر الأيام من أغذية على أن تترك الصيام فلن تستجيب، بل تواصل صومها إلى نهايته. والغريب أن الإنسان العاقل بكل ما أعطاه الله من قدرات لا يمتلك هذا المستوى من الحس ولا يحاول أن يحرر بدنه يوماً في الأسبوع أو الأسبوعين من سطوة العادة وسيطرة الروتين اليومي: إفطار عند الصباح وغداء في الظهيرة وعشاء في المساء، وكأن أوقاتنا صارت مقسمةٌ على الوجبات اليومية دونما محاولة لخرق هذا النظام الروتيني الممل والثقيل.
ومن هنا تأتي أهمية التغيير الذي يحدثه شهر الصوم بأيامه المتلاحقة، صحيح أن الأغلبية في الوطن العربي والعالم الإسلامي قد خرجت عن قواعد التجربة وتحول شهر الصوم بالنسبة لها من فترة تقشف ومقاومة للإسراف إلى فرصة لإظهار البذخ وإثراء الموائد مما لذَّ وطاب من طعام وشراب، لاسيما لدى الموسرين ومن نسوا وتناسوا الحكمة من الصوم، وما يرافقه من ضرورة الإحساس بجوع الجائع واحتياج المحتاج، ولعل الأهم من هذا وذاك ألا تجد الروح في هذه التجربة العظيمة غايتها وتنطلق في تأملاتها ومحاولة الوقوف في وجه هذا العدوان الذي طال كل شيء جميل في حياتنا وفتح أبواب الحروب لتأكل ما تبقى على وجه الأرض من بشر وشجر ومنجزات وأحلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"