ليبيا: الحاجة إلى مبادرة ذاتية

04:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
من حق من يمكنهم متابعة الأوضاع في ليبيا أن يستشعروا أن الإرث الثقيل لعهد القذافي ما زال يفعل فعله، فغالبية الفرقاء الفاعلين على الأرض يتبادلون الاتهامات فيما بينهم وينزهون أنفسهم عن ارتكاب الأخطاء، ويتحدث هؤلاء عن كل شيء باستثناء إرساء دولة حديثة يحكمها القانون والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات والاحتكام إلى الشعب .
في هذه الغضون فإنه من المقرر أن تجرى انتخابات برلمانية عامة يوم 25 يونيو/حزيران الجاري، وفق ما أفادت اللجنة العليا للانتخابات ، ويتساءل المرء عن امكانية تنفيذ هذا الاستحقاق في ظل أوضاع أمنية شديدة التوتر، مع وجود قوى أمنية مسلحة تتنازع الشرعية، من الجيش الوطني الليبي الذي يقوده اللواء الذي عاد من تقاعده خليفة حفتر ليقود معركة الكرامة ، إلى الجيش الليبي الذي كان قائماً منذ عهد القذافي، إلى كتائب الثوار المتعددة ناهيك عن تواجد تنظيم القاعدة للمغرب الاسلامي في مناطق مختلفة من البلاد .
ويزداد الأمر غرابة مع وجود حكومتين تتنازعان الشرعية إحداهما برئاسة أحمد معيتيق التي تعقد اجتماعاتها في أحد فنادق طرابلس، والثانية برئاسة عبدالله الثني التي ترفض تسليم السلطة لحكومة معيتيق التي اختارها المؤتمر الوطني العام (البرلمان) قبل أقل من أسبوعين على انتهاء ولايته الانتقالية .
يتساءل المرء هنا عن الحكومة التي ستشرف على العملية الانتخابية، وعن القوى الأمنية المكلفة بحماية هذه العملية وسط الانقسامات المعلنة بين الاجهزة الحكومية والأمنية، وكيف ستدار الحملات الانتخابية ويتم التعبير فيها عن آراء مختلفة في مثل هذه الظروف، وفي وقت تعرض فيه صحفي (مفتاح بوزيد) وصحفية (نصيب كزنافة) للاغتيال خلال الأسبوعين الماضيين لمجرد جهرهما بآرائهما، من دون أن يلوح أمل في تعقب الجناة وتقديمهم إلى العدالة .
من دواعي الأسف أن تتضاءل احتمالات تعافي الأوضاع وسط التضارب في المصالح وانتشار السلاح في أيدي الجماعات والأفراد، وهو ما أثار قلقاً متزايداً لدى دول الجوار شمل مصر وتونس والجزائر والمغرب، حيث نشطت التحركات بين هذه البلدان لوقف المضاعفات الأمنية على هذه الدول عبر حدودها المفتوحة مع ليبيا، حتى إن الجزائر اغلقت سفارتها في طرابلس . وقد ظهر خلال الاسبوع الماضي ما يشبه عودة الروح إلى اتحاد المغرب العربي وذلك عبر الاتصالات بين دول الاتحاد، ومن ضمنها زيارة اداها العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى تونس . وقد سبق ذلك لقاء لوزراء خارجية هذه الدول اضافة إلى السودان والتشاد والنيجر (ذات الحدود مع ليبيا) وذلك على هامش مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز في الجزائر .
تتحول ليبيا أكثر فأكثر إلى مشكلة أمنية ساخنة لدول الجوار العربي والإفريقي، وتنشط التحركات الخارجية لتطويق هذه المشكلة وضبط الحدود . فيما ذكرت مصادر صحيفة "التايمز" البريطانية (الخميس 29 مايو/أيار) أن قوات خاصة من فرنسا وأمريكا والجزائر تتجه إلى جنوب ليبيا لضبط الوضع فيها حيث تنتشر هناك جماعات قاعدة المغرب الإسلامي . ولا شك أن دول الجوار سوف تنجح بصورة او بأخرى في منع انسياب مسلحين عبر الحدود المشتركة مع ليبيا . غير ان المشكلة بعدئذ تبقى في الداخل الليبي المترامي الأطراف ( مليون و800 الف كيلومتر مربع) حتى إن ليبيا تعتبر رابع أكبر دول إفريقيا مساحة وبحدود برية مع ست دول وبشواطىء طويلة على البحر المتوسط تبلغ 1955 كيلومتراً . في ظروف طبيعية فإن هذه المعطيات تشكل مزايا لهذا البلد حيث يمكن ان تنشط السياحة والاستثمارات والصيد البحري، غير انها في الظروف التعسة القائمة تشكل ثغرات وتحديات أمنية، يستفيد منها فقط من يرغبون في الفوضى وفي تجارة السلاح وأخذ القانون باليد، حتى إن عائدين من ليبيا يتحدثون عن تجارة ممنوعات في هذا البلد، الذي يغيب عنه حكم القانون والحكم المركزي وهو ما كان يشكو منه الليبيون قبل ثورة 17 فبراير/شباط 2011 ، وها هم يعانون في ظل الثورة المشكلات نفسها، ولكن مع تغير الوجوه التي تتصدر السلطة المجزأة .
في خضم هذه المشكلات المستعصية التي تأخذ بخناق بعضها بعضاً، لا يرى في التحركات التي يقودها اللواء خليفة حفتر، محض انقلاب عسكري بالمفهوم الكلاسيكي للأمر . فليست هناك منظومة مؤسسية قائمة كي يصح القول إن هناك محاولة انقلاب عليها . لقد ادت تحركات هذا اللواء إلى انضمام قطاعات عسكرية كبيرة إليه، وحظي حتى بتأييد مبدئي من رئيس الحكومة معيتيق .
ورغم الوضع المضطرب والمحاذير التي تعيق تحركات الشارع فقد خرجت مسيرات كبيرة مؤيدة لما سُمّي معركة الكرامة . لا يرغب المرء بتأييد حركة عسكرية، وإنما التدليل على أهمية خروج مبادرة ليبية ذاتية لضبط الوضع وتطبيعه، على أن لا تؤدي بالطبع إلى قيام حكم عسكري، أو سفك الدماء، أو تعطيل الحياة الطبيعية بما في ذلك إجراء الانتخابات النيابية، متى تيسر اجراؤها وفي أقرب الآجال الممكنة . ومن المفارقات ان توحيد المؤسسة العسكرية على أسس مهنية وطنية، يعتبر أبرز الشروط اللازمة لانبعاث دولة المؤسسات في لبيبا، وتنظيم حيازة السلاح، ودمج كتائب الثوار في هذه المؤسسة، ووضع حد نهائي للتعدد الكبير في القوى الأمنية، الذي لن يؤدي سوى إلى تنازع مسلح مديد يأخذ الشعب في طريقه .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"