شكراً للوضوح المبكر

01:49 صباحا
قراءة 5 دقائق

كان الناشط الفلسطيني الأمريكي الراحل ابراهيم أبو لغد يرد على من يسأله عن حصيلة جهود الوساطة التي بذلها لسنوات بالاشتراك مع زميله ادوارد سعيد بين منظمة التحرير الفلسطينية (أيام قيادة أبو عمار) والبيت الابيض، بشأن إيجاد تسوية تاريخية لقضية فلسطين، كان يرد بما معناه: ما زلنا نكرر الوقوع في الفخ نفسه مع الإدارة الأمريكية: نعلق آمالاً كبيرة على كل رئيس أمريكي جديد، حتى إذا أضعنا أربع أو ثماني سنوات من دون طائل، نعاود الكرة مرة تلو مرة مع الرئيس الأمريكي التالي، لنحصد بعد ولاية رئاسية أو ولايتين النتيجة المخيبة نفسها.

ومن الممكن طبعاً، قبل الاستماع الى شهادة الدكتور ابراهيم أبو لغد، اكتشاف المسألة نفسها بمجرد استطلاع دقيق وسريع لتاريخ الآمال العربية المعقودة تاريخياً على الرؤساء الذين يتوالون على رأس الادارة الأمريكية، ومقارنة هذا التاريخ بالوضع الكارثي الحالي لما تبقى من أرض فلسطين، تحت نير الاحتلال الصهيوني الرابض منذ عشرات السنين، والذي لا يزيده مرور السنين إلا شراهة وشراسة وتوسعاً، واستيلاء على ما تبقى من الأرض الفلسطينية والحقوق الفلسطينية، واستبعاداً مطرداً للاحتمالات الواقعية لإنجاز حلم دولة فلسطينية، حتى لو كانت مجرد كيان هزيل خاضع واقعياً لهيمنة إسرائيل.

وإذا كان انتخاب مواطن أسود لرئاسة الولايات المتحدة قد جاء تغييراً حقيقياً في الداخل الأمريكي، كانجاز لحلم مارتن لوثر كينغ الذي اطلقه قبيل اغتياله لأربعين سنة مضت، فإن التسرع في الخلط بين هذا التغيير الحاصل، وبين أحلام تغيير محتمل للموقف الأمريكي من قضية فلسطين، مع الرئيس الجديد، هو الأمر الذي أردنا التوقف عنده في سطور هذا المقال.

الحقيقة أن الرئيس المنتخب باراك أوباما قد تفضل مشكوراً، ومنذ ما قبل انتخابه رئيساً، ثم في الايام القليلة التي تلت فوزه بالمنصب، تفضل بتقديم ادلة عملية مبكرة جداً في هذا المجال، لتوجهاته في سياق خيبة الأمل التي عبر عنها الدكتور أبو لغد، في ربط وتجديد احلام الحل التاريخي لقضية فلسطين، بتبدل الرؤساء الأمريكيين.

الإشارة العملية الأولى، أطلقها أوباما أمام منظمة ايباك الأمريكية الموالية للحركة الصهيونية (وليس ل إسرائيل فقط)، يومها بالغ المرشح باراك أوباما في تضييق المسافة بين وعوده ل إسرائيل، وبين المبادئ الاساسية للحركة الصهيونية، حتى شعر الجميع انه وصل إلى حد التطابق بينهما، وحتى أثار حنق صهيوني يساري هو اوري افنيري.

وكان الاعتقاد يومها، لدى كثيرين داخل أمريكا وخارجها، وحتى في بعض المواقع العربية، أن كلام أي مرشح رئاسي أمريكي أمام ايباك لا يجوز اعتباره تعبيراً عن برنامج حكم الرئيس المقبل، فهو ليس أكثر من مجرد خطاب انتخابي حماسي بلا حدود، لاستقطاب أقصى ما يمكن من أصوات اللوبي الصهيوني في أمريكا، عن طريق تطمين هذا اللوبي بطريقة لا تترك أي مجال للشك أو التأويل، بدليل ان خطاب المرشحين الديمقراطي والجمهوري أمام ايباك جاءا متطابقين، لا مجال للتفريق بينهما، شكلاً ومضموناً. لكن المرشح أوباما، الذي أصبح رئيساً في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، لم يضيع وقتا يذكر لمواصلة اطلاق الإشارات المعبرة عن نواياه في مجال قضية فلسطين، إن انطباع معظم المراقبين، بل جميعهم، كان يميل في البداية إلى أن قضية الازمة الاقتصادية، وقضية الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وقضية الموقف الأمريكي من الملف النووي الإيراني، هي القضايا التي ستستولي على اهتمام وجهود الرئيس الجديد أولاً، بحيث لا تحتل أزمة الشرق الأوسط (الصراع العربي الإسرائيلي)، إلا موقعاً متأخرًا في سلم أولوياته، إن لم يكن الموقع الأخير، لكن الأمور سارت عكس ذلك.

إذا اعتمدنا فقط على التصريحات الرسمية لأوباما، منذ انتخابه رئيساً، يمكننا القول إنه حتى الآن يتريث في الإعلان عن خطوات كبرى، في أي من الأزمات الرئيسية التي تواجه أمريكا، لكن التصريحات ليست المؤشر الوحيد على الاتجاهات السياسية. لقد كانت أول خطوة رسمية مهمة قررها وأعلنها الرئيس الجديد، تعيين راحم عمانوئيل رئيساً لموظفي البيت الأبيض، أي الساعد الأيمن للرئيس الجديد في عملية تركيب الإدارة الجديدة التابعة للبيت الأبيض.

ليس عمانوئيل مجرد مواطن أمريكي يحمل جنسية مزدوجة (أمريكية- إسرائيلية)، إنه مولود أصلاً في إسرائيل، ومجند سابق في الجيش الإسرائيلي. الأهم من كل ذلك، انه ابن لأسرة مغرقة في صهيونيتها، لدرجة أن والده كان منتمياً إلى المنظمات الصهيونية الإرهابية المسؤولة عن نسف فندق الملك داوود، واغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وعدداً من المذابح التي أدت الى تهجير الفلسطينيين قسرياً، وأشهرها مجزرة دير ياسين (شتيرن والأرغون، بزعامة شاميروبيغن).

لكن هذه ليست سوى معلومات عن ماضي عمانوئيل، أما حاضره، فقد وردت معلومات عنه في مقال للمحامي الأمريكي جون ويتباك، الذي يشير إلى علاقة عمانوئيل بالموساد الإسرائيلي، حتى أن الرئيس الأسبق كلينتون اضطر لفصله من وظيفته في البيت الأبيض، بعد ثبوت مسؤوليته عن توظيف مونيكا لوينسكي، التي كادت علاقتها مع الرئيس كلينتون تنهي فترة رئاسته باكراً. وهي قضية شائكة يرجح علاقة الموساد المباشرة بها، لتسجيل قضية على الرئيس الأمريكي، يتم تحريكها في الوقت المناسب والاتجاه المناسب.

هذا هو الموظف الرئيسي الأول في إدارة الرئيس الجديد، أما الموظف الرئيسي الثاني، فهناك ترشيحات تتوقع إعادة تعيين دينيس روس، مسؤولاً أمريكياً أول عن ملف الصراع العربي- الإسرائيلي. ودينيس روس هو الدبلوماسي الذي تصفه المصادر الأمريكية نفسها، بأنه حرص في أثناء ولاية جورج بوش الأب (4 سنوات) وكلينتون (8 سنوات)، على أن لا تتميز السياسة الأمريكية في الصراع العربي الإسرائيلي مليمتراً واحداً عن سياسة اليمين الإسرائيلي المتشدد.

مع ذلك، ليس معنى هذا أن الرئيس الأمريكي الجديد قد أقفل منذ الآن كل النوافذ أمام احتمال اطلاق مبادرة أمريكية ما (كالعادة على أي حال عند كل رئيس) ذات يوم بشأن القضية، لكن توجهات الرئيس الجديد، تذكرنا فوراً بآلية الانتظار التي كنا لا نجيد سواها، في مواجهة الموقف الأمريكي من قضية فلسطين، فنفترض ان الرئيس الأمريكي، مضطر في ولايته الاولى لأصوات اللوبي الصهيوني، أما في سنوات ولايته الثانية فهو متحرر من حاجته لهذه الأصوات، وبوسعه لذلك اتخاذ مبادرات أشد جرأة تفرض على إسرائيل درجة من الالتزام بالقانون الدولي، ولم نحصد بعد كل هذه الافتراضات سوى ثمار الخيبة الكاملة.

إن ذاكرة الاطفال العرب، تعي على الأقل تجربتين مماثلتين مع رئيسين أمريكيين توليا الرئاسة لولايتين متتاليتين (كلينتون وبوش الابن)، ومع ذلك فإن مصير القضية لا يبدو واضحا كما يبدو في عمليات طرد المواطنين العرب من بيوتهم في القدس العربية، لإحلال المستوطنين اليهود محلهم.

يستحق الرئيس الجديد باراك أوباما من العرب شكراً جزيلاً على تكرمه بإصدار إشاراته المبكرة في هذا الاتجاه، لعل ذلك يفيد الذين لا يتعلمون حتى الآن من تكرار التجارب الفاشلة.

بقي على العرب بعد الشكر، أن يتخذوا قرارهم التاريخي بالخروج من حالة الانتظار المعيب هذه لفتات البيت الابيض (وهو فتات لا يأتي)، ويحزموا أمرهم على قرار موحد وجماعي، باستنهاض كل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ابتداء من القرارين 181 و،194 وربط مصير العلاقات الأمريكية العربية، بوقوف أمريكا الى جانب اجبار إسرائيل على الالتزام بكل هذه القرارات.

هل هذا مجرد حلم جميل؟ ربما، لكن بغير التمسك به، سنبقى متسولين الى الأبد على بوابة البيت الأبيض، أياً كان الرئيس الذي يشغل البيت الأبيض، لحل لن ينجزه أحد عنا، اذا لم نتحرك نحن لإنجازه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"