حجر في رأس العلمانية

04:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

لن تعود تركيا بعد الانقلاب الفاشل هي تركيا ما قبله.
كان الحدث مفاجئاً لأن أكثر من ثلاثة عشر عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية هيأت له أن يزعزع ثقة الجيش بأنه ما زال حارس العلمانية ، وأنه قادر في أي وقت على أن يلزم خصومها بالانسحاب من الحكم بالكلمة وليس بالبندقية. ذلك فعله مع حزب الرفاهة بزعامة أوربكان معلم أردوغان ورفاقه. غير أن هؤلاء تفوّقوا عليه واستطاعوا مرات أن يكشفوا مؤامرات كثيرة قبل أن تختمر ، وأن يحيلوا جنرالات في الجيش والاستخبارات إلى المحاكمات وإلى الاستيداع.
وكان الحدث مدوياً لأن دماء كثيرة سالت، ولأن الشعب هو الذي خرج إلى الشوارع، ولم يقف فقط أمام الدبابات وإنما ضرب الجنود والضباط وقادهم مكبلين. وبين المفاجأة والدوي كان ثمة شيء معبر وهو وقفة الأحزاب كلها في لحظة فارقة على خط مجابهة العسكر ، بمن فيهم الأشد عداء للإسلاميين والأكثر وفاءً لأتاتورك وإخلاصاً للعلمانية.
إن الحديث عن مسرحية أخرجها أردوغان يبعث على السخرية لأنها مخاطرة لا يقدم عليها سياسي تشهد سيرته أنه الدهاء والتصميم فلا تنطبق عليه صفة الملك الساذج في مسرحية «الملك هو الملك» للراحل سعد الله ونوس. ولا يقاس بأي حال تبادل المواقع في موسكو بين الرئيس بوتين ورئيس وزرائه، فهناك يمسك الأول بالمقادير كلها أكان في الموقع الأول أو الثاني، وهو أيضاً لا يتخلى عن صاحبه وقد لا يجد أخلص منه، وأما في تركيا أو غيرها فإن الجيش إذا خرج من ثكناته واستطاع فإن الرئيس لن يعود، وإذا حصل فسيكون دمية في مسرح عرائس. يضاف إليه أن نوع القوات وحجمها وعدد الجنرالات والضباط الذين شاركوا في العملية الانقلابية أكبر وأوسع من أن يكون حزب أردوغان قد حقق اختراقاً في الجيش بهذا القدر، والأمر نفسه ينطبق على فتح الله غولن المتهم بأنه مدبر الحركة وملهمها.
يبقى أعظم اليقين أن الجيش التركي ما زال مشبعاً، رغم الخضّات، بالتقاليد الأتاتوركية، مخلصاً لدور تربى عليه وعقيدة آمن بها وهي الإبقاء على العلمانية حيّة نابضة، ولذلك أراد وحاول. وأما شأن غولن فإن له أذرعاً في جهاز التعليم والإدارة والمؤسسات الأكاديمية والعلمية أوجبت بأن يرمى بنفس الحجر مع العلمانية، العصفور الكبير.
مهما كان فإن المتداول أن جهاز الاستخبارات استوفى المعلومات عن الانقلاب ظهر الجمعة ، وأن رئيسه وضع خطة لإفشاله بعد أن أبلغ رئيس الأركان ورئيس الجمهورية. ومن مجرى الأحداث يمكن استخلاص ثلاثة ملامح في الخطة ، وهي إخراج الناس إلى الشوارع باستنفار الأحزاب والتنظيمات المدنية، وقد استجابوا جميعاً خوفاً من قفزة إلى المجهول. ومع الجماهير تمت الاستعانة بجهاز الشرطة لاعتبارات الانضباط الذي لا يهتم بلون النظام الحاكم وطبيعته وبوجود محتمل لحزب العدالة ، كما هي عادة الإخوان المسلمين في اختراق الأجهزة الأمنية. والملمح الثالث فيما جرى مع الجيش بمهمة تولاها رئيس الأركان. والواضح أن اتساع المؤامرة وشمولها أغلب القوات ، منعته من التصدي لها من موقعه العالي بواسطة وحدات تأتمر له ، فلجأ لمخطط الانقلاب قائد سلاح الجو السابق الجنرال المتقاعد ألن أوز ترك ودعاه إلى مكتبه وفاجأه بما يعرف وطلب مساعدته، ولم يجد هذا غير الاتصال بالضباط في الثكنات من مكتب رئيس الأركان، وفي لحظة من التوتر العنيف كان لا بد أن يتردد البعض وألا يتوانى آخرون رأوا في انكشاف المخطط تهمة كافية ، وأن العودة خطرٌ محقق والإقدام قد يسفر عن نجاح. وهكذا حدث الإرباك الذي جعل قائد سلاح الجو السابق يطلب من الادعاء شهادة رئيس الأركان بأنه ساهم في إفشال الانقلاب.
وإذا كان الشعب التركي هو الذي حمى السياسة من الخوذات والدبابات ، فإن أردوغان ظهر زعيماً مدافعاً عن الديمقراطية، لكنه دفاع اللحظة ، إذ إن مجمل الإجراءات المستعجلة وضعت مستقبل الديمقراطية في تركيا أمام علامة استفهام كبيرة. فهناك اعتقالات في سلك القضاء والتعليم والإدارة وغيرها، وهناك عزل من الوظائف الإدارية وتوجه إلى تعديلات دستورية وقانونية تعيد عقوبة الإعدام وإلى حالة طوارئ وأمور كثيرة تشير إلى أن تركيا مقبلة على سنوات ضاجة.
لقد فاز أردوغان ب «الجائزة» ورمى حجراً في رأس العلمانية. والظاهر أنه سيتابع تقدمه في مشروعه الذي يبدو أنه سيؤدي إلى احتكاك مع القوى الدولية والداخلية على السواء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"