مصر بين الصورة القاتمة والحقيقة الغائبة

02:04 صباحا
قراءة 5 دقائق

تُظهر الانتخابات في أي بلد أخلاقيات المجتمع وسلوكيات الناس وطقوس الحياة لأن الانتخابات ظاهرة ترتبط بالشارع بما فيه وما له وما عليه، وتواكب الانتخابات عادة مظاهر متعددة أهمها الدعاية الكثيفة والوعود الكاذبة والادعاءات الظالمة التي تنعكس على الصحافة بكل أطيافها، عناوين زاعقة وعبارات صارخة وأحكام قاطعة، وقد تركت الانتخابات الأخيرة لبرلمان 2010 جراحاً غائرة ومواقف متناقضة وصورة عامة لا تخلو من بعض القلق ولا تبرأ من مسحة يأس بدأت تتردد أصداؤها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، والآن دعنا نسوق الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة لمجلس الشعب 2010 قد حظيت باهتمامٍ عربي ودولي غير مسبوق، وربما يكون السبب في ذلك هو ارتباطها بتحولات سياسية ودستورية وحراك سياسي شهدته الساحة المصرية في السنوات الأخيرة، كما أن أهمية المجلس الجديد هي أن المرشحين لمنصب الرئيس يحتاجون إلى حدٍ أدنى من التمثيل داخل ذلك البرلمان . من هنا فإن مقاطعة حزب الوفد نظرياً لهذه الانتخابات كان تصرفاً سلبياً مهما كانت دوافعه ومبرراته، ينال تلقائياً من صدقية المجلس والحزب في وقتٍ واحد، لأن غياب ممثلي جماعة الإخوان المسلمين لا يمثل ضربة للبرلمان الجديد أولاً، لأنها جماعة محظورة قانوناً، وثانياً لأن أعضاءها يختفون تحت عباءة المستقلين فلن يشعر المجتمع باختفائهم من المجلس إلا من خلال افتقاد ممارساتهم بكل ما يلحق بها من صخب وضجيج وانفعال .

* ثانياً: إن انتخابات مجلس الشعب الأخيرة تقدم إشارة واضحة لجميع أعراض أمراض المجتمع المصري ومشكلات الوطن، كما أنها تشير بوضوح إلى الخلل في توازنات القوى السياسية وأوزان الأحزاب على الساحة وتعطي انطباعاً تلقائياً بأن الديمقراطية في مصر لم تشب عن الطوق بعد، فلم تبلغ سن الرشد ومازالت تتأرجح بين أحادية التنظيم وتعددية الأحزاب، لذلك فإنني أظن أنه رغم جهود الأحزاب خصوصاً حزب الأغلبية في تطوير هياكلها التنظيمية وتربية كوادرها السياسية والقيام بعملية إصلاح شامل لبنيتها التنظيمية فإنها لم تنعكس كلها بشكل إيجابي على الشارع المصري .

* ثالثاً: إنني ممن يعتقدون أن الكيان البشري معقدٌ بطبيعته وأن الوحدة الإنسانية تحتاج إلى نمطٍ يتميز بالشمول عند دراسته، فالإنسان مخلوق معقد التركيب متداخل المشاعر قد لا ترصد مواقفه الحقيقية وآراءه الصادقة استقصاءات الرأي أو الحسابات الإلكترونية للعملية الانتخابية، لأن المسألة تخضع في النهاية لتربيطاتٍ فئوية أو معادلات عائلية أو توازنات جغرافية، لذلك فإن الأحكام القاطعة في العملية الانتخابية لا تكون صحيحة بالضرورة لأنها تطبق المعايير الدقيقة في الدراسات العلمية والرياضيات على الظاهرة البشرية التي يصعب أحياناً رصد مشاعرها وتوقع مواقفها .

* رابعاً: إن شيوع النفاق وانتشار الكذب وغياب قيم الصدق والموضوعية قد أفرزت هي الأخرى مجتمعاً هشاً لا يتحمل أفراده النتائج المفاجئة، فكل مرشح يتوهم أنه الفارس الأول والرابح الوحيد بسبب ما يستمع إليه من وعودٍ كاذبة وتطمينات زائفة ومجاملات تبدو بعيدة عن الواقع والحقيقة، ولقد كنت استقبل شخصياً عشرات المكالمات من معارفي المرشحين والمرشحات في الدوائر المختلفة، يؤكد كل منهم ومنهن أنه حاصل على أعلى الأصوات وأن شعبيته كاسحة، ومن الغريب أن بعض المرشحين كانوا من الدائرة نفسها، وعلى المقعد ذاته، حيث كان لدى كل منهم انطباعٌ مبالغ فيه عن شعبيته واحتمالات فوزه المؤكد بسبب ما يستمع إليه من وعود وما يراه من ابتسامات، فالكل يداهن الكل والله وحده علام الغيوب .

* خامساً: لقد أدى المال والدين والعصبية أدواراً متفاوتة في الانتخابات الأخيرة، كما أن حجم العنف كان أقل من توقعاتنا المتشائمة، كذلك فإن شراء الأصوات ظاهرة مصرية تاريخية تدعو إلى الأسف وتؤكد أن هذا الوطن لن ينهض إلا بنظامٍ تعليمي عصري حديث، وثقافة تواكب ما يدور في عالم اليوم، وإعلام يعكس الواقع بلا زيف ومؤسسة دينية قوية مؤثرة، فشعب يعاني نصف سكانه الأمية لابد أن يعاني أيضاً جميع أمراض الجهل والفقر والمرض، وذلك بدا واضحاً في الانتخابات الأخيرة وحالة الشارع المصري قبلها وأثناءها وبعدها مباشرة .

* سادساً: إن ضعف الأحزاب السياسية في مصر حقيقة تاريخية ولم تشهد مصر حزباً قوياً إلا حزب الوفد (1919-1952) لأنه كان ببساطة هو وعاء الحركة الوطنية المصرية ومنبرها الشعبي حتى جرى تشبيهه بالثوب الفضفاض الذي يضم مختلف ألوان الطيف الوطني في تلك الفترة، كذلك فإنني أظن صادقاً أن تحول حركة الإخوان المسلمين من حركة دعوية واجتهادٍ إسلامي خالص إلى تطلع نحو السياسة وبريقها الزائف ولجوئها إلى العنف في بعض المراحل كل ذلك كان خصماً تلقائياً من رصيد الديمقراطية المصرية ومستقبلها، فلو أن تلك الحركة التي أنشأها المرشد الأول الإمام حسن البنا قد اكتفت بالاشتباك مع المجتمع وقيمه وتقاليده ودعت إلى الخير ونهت عن المنكر ونشرت التدين الصحيح بين الشباب واقتصرت على ذلك من دون أن يشدها بريق السياسة لتقتحم الانتخابات وتباشر الاغتيالات وتسعى إلى تغيير هوية المجتمع من دون أن يكون لديها بديل كامل أو رؤية متكاملة مكتفية باشتباك الدين والسياسة واحتكار شعارات الإسلام في مواجهة خصومه السياسيين بمنطق استبعادي واستعلائي في الوقت ذاته، لو لم يحدث ذلك لعرفت الديمقراطية في مصر طريقاً مختلفاً لا يرتبط بالمفردات الشائعة حالياً مثل التزوير وشراء الأصوات والعنف الانتخابي .

* سابعاً: إن ما يدهشني حقاً هو تنامي ظاهرة الرأي العام في مصر وقوته، وهو أمرٌ يدعو إلى استغراب كثير من المعلقين السياسيين الدوليين، فبرغم انتقاداتهم للعملية الديمقراطية في مصر فإنهم يجمعون على تأثير الرأي العام المصري في المنطقة كلها، وهو أمرٌ يبدو في ظاهره متناقضاً ولكن جوهره يؤكد استعداد الشعب المصري العريق للديمقراطية الحقيقية والمشاركة السياسية الواسعة وتمثيل كل القوى الموجودة في الشارع المصري، شريطة أن تقبل القواعد العصرية للعبة الديمقراطية، وأن تؤمن بأن الأمة هي مصدر السلطات، وأن تداول السلطة ودوران النخبة وتعاقب الأجيال هي مفردات حديثة للديمقراطية الحقيقية .

. . هذه بعض ملاحظاتنا بل خواطرنا حول الانتخابات الأخيرة نذكرها مدفوعين بضرورة إعلاء المصلحة العليا للوطن والاهتمام بالأجيال الجديدة فكرياً ووطنياً وتأهيلهم سياسياً بالوعي والولاء والشعور بالانتماء، ونحن حين نقول ذلك فإننا نقوله من أجل مصر الحضارة والوطن والمستقبل، ولا نردد ذلك من أجل نظام سياسي معين أو مرحلة بذاتها، فمصر أكبر وأعظم وأعمق من كل الممارسات العابرة والتجارب المتتالية، وأنا أريد لشبابنا الخروج من بيئة الإحباط ومناخ اليأس الذي زرعته محاولات حمقاء لجلد الذات بتطرف مع تشويه الهوية بالاستغراق في الحديث المتكرر أمام العالم عن الفساد والفساد وحده حتى أصبحت صورة مصر في عيون شقيقاتها العربية نموذجاً للتراجع واللامبالاة وانحسار الدور وخفوت الضوء، والأمر في قراءتي غير ذلك لأن مصر ظهرت لكي تقود، وتحركت لكي تؤثر، وقاتلت تاريخياً من أجل السلام، وسعت دائماً نحو العدل، ودولة تلك هي خصائصها لن تغيب أبداً وسوف تظل شمسها ساطعة في كل مكان، لأنها مصر المعلمة والملهمة التي اشتغل شعبها بصناعة الثقافة وبناء الحضارة وتشييد الدولة الحديثة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"