العالم بعد الانتفاضة الأمريكية

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أمريكا، وبفضل ترامب، تسعى لتبقى الأقوى عسكرياً، بحلف أطلسي، أو من دونه، أو بتحالفات متنقلة، لكنها مهددة بمشكلات عويصة
لم أفهمهم وهم يصفون الصين بأنها، بالنسبة إليهم، هواية. كانوا جماعة من دبلوماسيين وصحفيين اشتغلوا في الصين لمراحل طالت، أو قصرت. لم أقدّر قيمة هذا الوصف إلا بعد فترة من الحل والترحال في قارات ثلاث. حاولت على مدى سنوات قليلة مرت منذ أن غادرت موقعي في بكين تفسير، وأحياناً تبرير، تغيرات طرأت على جداول اهتماماتي المهنية والأكاديمية. لن أطيل. اكتشفت، بين ما اكتشفت وهو كثير، أن فهم العلاقات الدولية ضروري لفهم سلوك رجال السلطة في الشؤون الداخلية في دولة ما، حتى إن كانوا هم الذين اختاروا الانعزال عن العالم الخارجي، أو فرض عليهم. كان من بين حظوظي قربي من تجربتين نادرتي التكرار، كنت قريباً جداً من الصين عندما وقع اختيار قادتها على الانعزال في خلال لحظات الانطلاق «الزلزالي» نحو مستقبل مختلف جذرياً. بعدها كنت قريباً، نسبياً، من تجربة قادة كوبا عندما فرضت عليهم الولايات المتحدة الانعزال. قاوموه بمحاولة نقل أفكارهم إلى شباب في أمريكا الجنوبية، والعالم الخارجي. وفي الحالتين كانت النتائج على مجمل العلاقات الدولية والإقليمية مذهلة، وعلى مجمل مستقبل الدولتين، الصين وكوبا، وخيارات زعمائهما تحديداً، وأقصد زعماء الصين وكوبا، خارقة لتوقعات أكاديميين وسياسيين على حد سواء.
من ناحية أخرى، وجدت نفسي أنحاز، بالوقت والجهد، في محاولة الحصول على فهم أعمق لقضية لم يتجاهلها، أو يهملها أهم مفكري أول عصر في تاريخ الإمبراطوريات. أما القضية فكانت عن الظروف، والملابسات، وأمزجة الشعوب، ومستوى ذكاء الحكام، وميولهم الشخصية، وأمور أخرى كانت قائمة في لحظات تاريخية نادراً ما تتكرر، ولكن ينتج عنها سقوط إمبراطوريات، وصعود أخرى، وآخر مشاهدها الانحدار المتدرج بالتنازل الطوعي للإمبراطورية البريطانية، والصعود بالحرب المناسبة للإمبراطورية الأمريكية.
مر من الزمن قرن، أو أكثر، ونبقى إلى يومنا هذا حائرين أمام فجوات في تعريف الواقع الذي نعيش. أتكون ما تسعى الصين إلى صياغته بعد أن صنعته وضعاً لبكين كمركز لإمبراطورية صينية بمعالم معروفة تاريخياً، وجغرافياً، ولكن أيضاً بشعارات ووثائق وبعض هياكل دبلوماسية ومراسمية مستعارة بصفة مؤقتة، أو دائمة، من تجارب في القرن العشرين؟ هي إمبراطورية في بعض ممارساتها وقوة عظمى في ممارسات أخرى؟
بمعنى آخر، هل سيتسنى للصين صنع نموذج توفيقي يجمع بين معالم تقليدية لا أظن أن الزعامة الصينية الراهنة قادرة على، حتى وإن كانت راغبة في، التخلص منها، ورفض السير على نهجها، وبين معالم عصرية تخضع لاعتبارات غربية المنشأ، وفي الأغلب غربية المحتوى، والمضمون. إنها معضلة الصين في الحاضر، وأساس تقدمها، أو تعثرها في المستقبل، وأظن أنها سوف تظل، كما هي الآن مفتاح الحرب والسلام في آسيا على المدى المنظور.
لدينا حاليا ثلاث دول عظمى، تسعى كل منها للاستفراد في أحسن الأحوال، بموقع القطب الأوحد، وفي أسوأ الأحوال بموقع قطب عظيم مشارك. أتينا بداية على الصين الملتزمة ثقافة سياسية مختلفة جذرياً عن ثقافة سياسية سادت في الغرب، ومنه إلى مستعمراته في الشرق خلال معظم مراحل التاريخ السياسي، كما وصل إلينا. بقيت في الغرب الولايات المتحدة قوة عظمى مجتهدة في بذل الجهد الممكن لتعويض ما فاتها، وإعادة ما انحدر، أو هوى وسقط من أرصدة قوة وحضارة. مشكلتها، أو إحدى مشكلاتها كما أتصور، أنها تقيس التدهور والصعود بمقاييس عقود عصر القوتين الأعظم، وسنوات القطبية الأحادية، بينما الصين تقيسها بمقاييس تغلب عليها الطباع الإمبراطورية الموروثة والمغروسة في ثقافة الصين السياسية.
رأينا، ونرى خط استثمارات، وبنى تحتية، وطرق عابرة لدول وثقافات، رأيناه يشق طريقه ملتوياً في مسيرته التواءات التنين الأسطوري، يربط مصالح دول ببعضها بعضاً، وفي الوقت نفسه يربطها بمصالح الصين.
روسيا متشبثة بموقع في صف القيادة. أظن أنها لن تعود قطبا ثانياً. ستبقى في صف القيادة قطباً، ولكن الثالث في الترتيب. تعود روسيا منزوعة الأنياب الأيديولوجية، وبالتالي قطباً ثالثاً يقود مجموعة من دول بعضها في أوروبا، وأكثرها في آسيا. كان الاتحاد السوفييتي العنوان الذي اختارته لافتة لها في المحافل الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، تسعى الآن، حسب أغلب الظن، لتكون أوراسيا (من دون الصين) عنوانها الجديد. هنا أيضاً، كما يبدو واضحاً، لن يخلو الأمر من مشكلات وجيهة، وليست خطيرة. خذ مثلاً السباق الجاري الآن على «ميزة تفوق» صار بامتياز علامة الأيام التي نعيشها متفرجين على أنشطة الدول الثلاث. الصين أعلنت بالفعل تفوقها بالتكنولوجيا بالغة التقدم. وروسيا تعود لتغرق نفسها بالديون الداخلية سعياً وراء تفوق بارز في إنتاج أسلحة بالغة الدمار، أو سهلة الترويج في جنوب يزداد عنفاً. وأمريكا، وبفضل ترامب، تسعى لتبقى الأقوى عسكرياً، بحلف أطلسي، أو من دونه، أو بتحالفات متنقلة. لكنها مهددة بمشكلات عويصة. يهددها مجتمع كشف ترامب عمق اهترائه عرقياً، وطائفياً، كما كشف ضحالة طبقته السياسية، وفسادها. هل مقدر لنا أن نرى أمريكا تسلم للصين، التي هي رمز حضارة مختلفة، حق تغيير مفردات وهياكل نظام دولي تعبت أوروبا وأمريكا في وضع أساساته الأيديولوجية والأخلاقية، وبناء هياكله ومؤسساته، وآن أوان استبداله. أم سنرى أمريكا تسلم لروسيا، أو لروسيا والصين معاً، طوعياً، أوروبا، ويعود الأطلسي حاجزاً منيعاً يفصل بين عالمين، عالم جديد جداً، وعالم كان جديداً إلى عهد قريب جداً؟ أم سنرى أمريكا تنتفض انتفاضة ثانية بعد انتفاضة قادها، أو تسبب بها دونالد ترامب، مستعيدة مكانتها في صدارة المتسابقين؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"