محنة حرية الفكر والاعتقاد

02:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو
كنت عازماً على كتابة مقال عن موضوع آخر، لولا أن فاجعة اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر من قبل معتوه أحمق جديد من بين مئات الألوف المعتوهين الحمقى في بلاد العرب وبلاد المسلمين، تحتم الانضمام إلى صفوف المناهضين لظاهرتي التطرف المجنون، والفهم البليد لدين الإسلام، اللتين ترمز إليهما حادثة الاغتيال تلك.
وإذا كانت هذه حادثة أودت بحياة فرد فإن «القاعدة»، وما فرخت من أبناء وبنات وأحفاد، قد مارست مثلها، وأبشع منها، بحق الألوف من البشر الأبرياء، بنفس الجنون والفهم اللاعقلاني للإسلام.
مأساة ناهض حتر تطرح مرة أخرى موضوع حرية الفكر والاعتقاد التي أقرها القرآن الكريم، ولكن يرجف بفهمها المرجفون.
حرية الفكر والاعتقاد هي من الأسس التي قامت عليها رسالة الإسلام. فآية «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، وآية «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، واضحتان ولا تحتاجان لأي تفسير، وهما تحكمهما الآية «تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون». وبمعنى آخر، فإن أي حديث، من أي كان وتحت أي مسمى، يتناقض معهما ويبطلهما هو حديث غير مقبول عقلاً، وغير إسلامي انتماء.
إذن، ليست المشكلة في القرآن، وإنما في مكان آخر، كتبت بشأن نقاط الضَعف في بنائه، وفي محتوياته المجلدات، ومن قبل أشخاص لا يُشكك في إيمانهم، وتدينهم، وعلمهم، وغيرتهم على طهارة دينهم.
هذا المكان الآخر تمثل أولاً في ما سمي بعلوم الحديث: تلك الأحاديث النبوية التي زاد عددها من نحو خمسمئة أيام الخلافة الراشدة، إلى نحو المليون في عصر المأمون، تلك التي وضع الكثير منها لدعم مشروعية هذا الحكم أو ذاك، أو لدعم هذا المذهب أو ذاك، أو لتشويه الدين الجديد عن طريق الإسرائيليات، وتلك التي اختلف حول معياري تصنيفها وترجيحها وصحتها، معيار السند ومعيار المتن التي بسبب ذلك امتلأت بالخرافات وبالاعتداءات على طهارة نبي الإسلام، وبجرأة محاولة نسخ بعض آيات القرآن، وبالادعاء بمعرفة تفاصيل عالم الغيب، وبالحط من مكانة المرأة وبمخالفة الآيات القرآنية بشأن حرية الإنسان في فكره وعقيدته وتصرفاته.
وقد دوّن كل ذلك في كتب مذهبية اكتسبت القداسة عند البعض، والصدقية التامة عند البعض الآخر. ومع أن كثيراً من الكتاب الإسلاميين طالبوا مؤخراً بمراجعة تلك الكتب وتنقيحها مما علق بها من نقاط ضعف كثيرة، إلا أنها لا تزال راسخة في الحياة الدينية والثقافية والسياسية، تمد من يريد من المعتوهين والمجانين بزاد لا ينضب لارتكاب إراقة الدماء والمجازر، ولوضع العرب والمسلمين والإسلام في مواجهة مع العالم كله، ولممارسة بشاعات سبي النساء، والاعتداء عليهن جنسياً، وغيرها كثير.
ومع الأسف، فإن بعضاً من الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، وكثيراً من المؤسسات الدينية والفقهية والمذهبية، ومجموعات من مدعي العلم المرتزقين الدجالين، ضالعون في ترويج ذلك الفهم، وذلك التقديس، وبالتالي في رفض المراجعة والتنقيح لكتب ذلك التراث المشوه المستغل.
وكنتيجة طبيعية لكل ذلك التخبط في عالم علوم الحديث، المعتدى عليه زوراً وبهتاناً، الذي يستعمل اليوم من قبل المعتوهين كمصدر لزرع الفتن والصراعات، وارتكاب الموبقات، أدخل بعض الفقهاء علوم الفقه الإسلامي في متاهات كثيرة باسم الاجتهاد أحياناً، وباسم منع الفتن والبدع أحياناً أخر. هذا الفقه الذي بناه بشر واجتهدوا فيه حسب علوم وظروف ونمط حياة أزمنتهم، انضاف إلى محنة علوم الحديث ليكون الركن الثاني في ذلك المكان الآخر. وهو الآخر، وبصورة مؤكدة، يحتاج إلى المراجعة والتنقيح والتجديد والإخراج نفسها من عالم المذهبية الضيق، بل وبنائه من جديد كفقه جديد يأخذ في الاعتبار علوم هذا العصر وظروفه وبشره.
إذ من دون هكذا مراجعة وتجديد سيبقى هذا الفقه أيضاً أحد المصادر التي تستعمل ما فيه من حلول وضعت لظروف تاريخية مختلفة عن حاضرنا، لاستعماله هو الآخر في تدمير مبدأ حرية الفكر والاعتقاد القرآني، وبالتالي في إراقة الدماء وترسيخ حياة التخلف والتزمت والظلم والطأفنة البغيضة البدائية.
إن ما يحز في النفس هو تقديس ذلك الفقه، وتناسي ما قاله على سبيل المثال أبو حنيفة «هذا رأيي، فمن جاء برأي أفضل قبلناه»، أو مالك «أنا بشر أخطئ وأصيب»، أو الشافعي «إذا صح الحديث بخلاف قولي فأضربوا بقولي عرض الحائط»، أو ابن حنبل «من ضيق علم الرجال تقليد الرجال. فلا تقلدوا الرجال فإنهم لا يسلمون من الخطأ»، وبصورة مؤكدة ينطبق الأمر على مؤسسي كل المذاهب الفقهية الأخرى.
نستطيع في بلاد العرب وبلدان الإسلام أن نتحدث إلى ما شاء الله عن فلسفات الحريات، وأفكار الحداثة، ومتطلبات الديمقراطية، وأهمية التسامح، وتحكيم القضاء العادل في كل خلافاتنا، لكن ذلك لن يفيد. إن المعتوهين والمجانين لن يقرأوا ذلك، فهم مشغولون بقراءة ما يعجب نفوسهم المريضة في ثنايا ذلك التراث المبتلى بالعلل. من هنا ستظل الدماء تسفك من دون وجه حق، والأزواج يفرقون من دون وجه حق، والمرأة تعاني وتئن، وأجهزة الأمن تستغل رسماً كرتونياً، أو جملة عابرة لتصفية حساباتها مع خصومها السياسيين، والحياة العربية ترزح تحت مآسي القرون وبلاداتها، وأمثال ناهض حتر يسقطون على وجوههم في برك دمائهم.
نحن هنا نتحدث عن حادثة الاغتيال الهمجي، وليس عما إذا كان الكاتب قد أخطأ التقدير والتعبير، فهذا موضوع آخر. هذا الاغتيال الغادر يضيف الحزن والأسى إلى مأساة حرية الفكر والاعتقاد في أرض العرب التي تمارس كل ما يغضب الذات الإلهية ثم تدعي حمايتها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"