حراك عند حارة الناعمة

02:43 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

الطائرة لم تكن كما عودتني أن تكون. المقاعد بدت غير مريحة، المضيفات لسن كالمضيفات اللاتي عرفتهن، خلال سنوات علاقتي بهذه الشركة. أرشدتني إحداهن باهتمام متردد إلى مقعدي في الصف الثالث. كانت الطائرة لا تزال تختال على أرض المطار في طريقها إلى بيروت، ساحبة ذيلها عندما عثرت على سبب قلة اهتمام المضيفة بي وبركاب غيري. تربصت لنظراتها أرصد هدفها. جلس في الصف الثاني سيد وسيدة، السيد يلقي عظات على السيدة، هامساً حتى لا أسمعه باعتباري الراكب الأقرب لهما، سألت وعرفت.
عرفت أن السيدة مطربة شهيرة، والسيد مدير أعمالها، عرفت أيضاً أن الرجال الأربعة الذين احتلوا الصفين الأول والثاني على الجانب الآخر من الطائرة خبراء مصارف، هم أيضاً من المشاهير.
كثيرون فاتتهم في حياتهم فرصة الاستمتاع بغرائب التظاهرات. لم أشارك في واحدة منذ كنت طالباً بالمدرسة الثانوية؛ لكنني اتخذتها هواية. تابعتها في الدول التي كانت حكوماتها تسمح لأصحاب المظالم بالتعبير عن مطالبهم، بالتظاهر السلمي، وتصادف وجودي فيها. الآن نعيش عصرها الذهبي. أتخيل أحياناً أنه ما من لحظة في التاريخ تتشابه واللحظة الراهنة؛ من حيث حجم الجماهير المتحركة. ففي كل اتجاه، وفي أي بلد يقابلك حشد يتظاهر؛ لمناسبة سعيدة أو يسد عليك طريقك حشد غاضب.
تفاعلت مع هذه التظاهرات وغيرها بالتعاطف مرة، والفضول مرات؛ لكن لا واحدة منها حركت في ذهني كل الفضول وكل التعاطف في آن واحد مثلما حركت تظاهرات لبنان.
وقفت على بعد أمتار أراقب وأسمع ثم جلست. كنت قبل عدة شهور في لبنان أجلس في نفس المكان. كان المنظر مختلفاً. هناك قابلت الصديق طلال سلمان مودعاً على فنجان قهوة ومستسلماً لسحابات لا تنتهي من دخان سجائره. أذكر أنني قلت له، وكان ابنه أحمد، القريب جداً إلى نفسي، حاضراً، «أغادر بيروت هذه المرة، وحزن غريب يصر أن يرافقني». لم أزد أو أتطرق إلى أي تفاصيل باستثناء إشارة عن أزمة في لبنان أراها تتقدم بسرعة من على بُعد داكنة وخبيثة. لم أدر وقتها أي شكل سوف تأخذه. لم أقل لهما إنني رأيت في هذه الزيارة شعباً استسلم سياسيوه وتخاذلوا، وبعضهم لا يخفي اعتماده على متدخل أجنبي موثوق به لن يتخلى عنه إن وقع أي مكروه له أو لحزبه أو عائلته أو ممتلكاته المالية والعقارية. أغلبهم على كل حال خانوا عهدهم للطوائف التي يقودونها. بعضهم هرّب إلى الخارج مال الدولة والطائفة.
وقع المكروه، انتفضت جماهير اللبنانيين ضد السياسيين، سيطر الفضول حاجباً عني اهتمامات عادية ويومية، ومهيمناً فلا يوجد أي حس أو خبر له أهمية باستثناء تظاهرات في بيروت، وعلى غير العادة في مناطق لبنانية أخرى. تدافعت إلى ذهني الأسئلة، سؤال يزيح آخر، ولا إجابة جاهزة عندي على أي منهما أو غيرهما من الأسئلة المتدافعة. غريب أمري. كنت هناك وتوقعت نشوب أزمة حكم ومجتمع ونظام فكيف وقد نشبت الأزمة، أقع ضحية فضول بلا حدود؟ لم أهنأ بلحظة هدوء واحدة على امتداد الأيام الأولى للثورة في لبنان. لم أعتد على ثورات تنشب في عالمنا العربي، وتستمر أياماً؛ بل أسابيع، ويبقى ذهني ملبداً بالحيرة، حيرة الباحث عن الحقيقة. لماذا لبنان استثناء؟ كل العرب تمسكوا برفض الطائفية، واعتبروها تهديداً مباشراً لوحدة الدولة العربية المستقلة وحديثة النشأة، إلا ساسة لبنان. تغيرت قيادات جميع أحزاب لبنان ومكانتها في خريطة المكانات والهيبات ولم يهتز صمودها المستميت في الدفاع عن النظام الطائفي. صمد النظام الطائفي في وجه إعصار القومية العربية حين لم تصمد أنظمة أخرى. صمد أيضاً في وجه عولمة ضربت هويات عديدة؛ بل لعله اكتسب في العولمة ومنها مناعة وقوة مضافة.
ساد الظن لفترة أن أهل الشيعة في لبنان، الذين تصدروا مسيرة العروبة في سنوات صعودها، وقادوا حملات دعم الفلسطينيين ومقاومة التوسع «الإسرائيلي» لن يتمسكوا بالنظام الطائفي، واثقين من نسبتهم العددية، ومن ضعف الطوائف الأخرى ومن شعبية حققوها على مستوى الإقليم العربي. أقول كان الظن. أقولها متعمداً منذ أن وجدت، وباندهاش كبير، أن سياسيين محسوبين على قيادة التيار الشيعي اللبناني يتصرفون خلال الأيام الأولى للثورة اللبنانية تصرفات جعلت منهم موضوعاً لسؤال من الأسئلة الصعبة التي أصابتني بالحيرة، وفرضت حالة الفضول. وصلني من لبنان قبل السفر ما يفيد أن شعبية كانت تحوزها قيادة هذا التيار تنحسر وبمعدل متزايد. بلغني هذا الرأي أو المعلومة والثورة في أيامها الأولى، بعد أيام أخرى، وكنت قد انتقلت بنفسي إلى هناك، رأيت كلمة الثورة في الخطاب العام ومعسكرات الاعتصام وبين دعاتها وحاملي شعاراتها تنحسر لمصلحة كلمة الحراك.
طائرة العودة تكاد تخلو من الركاب. كان معي مصريون وأجانب ولا مشاهير بينهم. سمعت ليلة سفري من بيروت من ينقل عن أجنبي أنه تلقى من سفارة بلاده نصيحة بالاستعداد للرحيل مع عائلته إذا تدهورت الأمور. الأمور، حسب رأي حكيم لبناني، تتدهور في ثلاث حالات. تتدهور في حال لم تصل المعونة عاجلاً من دول غربية وعربية، وربما من دولة جوار بموافقة مكتومة من الولايات المتحدة، وتتدهور ثانياً في حال استمرت القوة السياسية المهيمنة حالياً ترتكب أخطاء سياسية جوهرية خلال محاولتها إعادة تكييف الوضع السياسي بما يضمن لها استمرار الهيمنة. وتتدهور ثالثاً في حال تدخلت قوى غير شرعية من داخل الحدود أو من خارجها، تغتال وتزرع متفجرات وتنشر الرعب. وهذه حسب ظني جاهزة للعمل فور الإشارة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"