صفحة طُويت

05:30 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلافاً لمسيرة حياته كلها، فقد رافق سوء الحظ عمر سليمان ثلاث مرات في الشهور العشرين الأخيرة . المرة الأولى حين أسند إليه الرئيس السابق منصب نائب الرئيس، وقبل الرجل هذا التكليف بل بدا ساعياً إليه، في وقت كانت فيه الأمور تتجه إلى نقطة اللاعودة بالنسبة إلى مصير نظام مبارك كله . والمرة الثانية حين رفضت اللجنة العليا طلب ترشيحه لانتخابات الرئاسة، والمرة الثالثة حين دهمته المنية وهو نزيل مركز طبي أمريكي متقدم .

في السنوات الأخيرة كان اللواء عمر سليمان يبدو في أنظار كثيرين داخل مصر وخارجها، بديلاً صالحاً لمبارك . فبحكم منشئه العسكري وخدمته العسكرية، كانت المؤسسة العسكرية راضية ضمنياً عن هذا الخيار الذي يقطع الطريق على توريث جمال مبارك . وكان يتمتع برصيد كبير نسبياً في الشارع، لكون المصريين دأبوا على النظر باحترام إلى الجهاز الذي يقوده (المخابرات العامة) خلافاً لموقفهم الشديد السلبية من مباحث أمن الدولة التابعة لوزارة الداخلية . وكان الغرب راضياً عن هذا الخيار، فللرجل صلات وثيقة جداً مع الغرب تعززت بعد 11 سبتمبر/أيلول العام 2001 والحملة على تنظيم القاعدة . حتى إنه ظل يبدو البديل الوحيد لمبارك، بينما ظل الأخير رغم اشتداد المرض عليه في السنتين الأخيرتين من حكمه، مصمماً على أن يموت رئيساً . بالبقاء رئيساً حتى الموت، لكنه لم يصمد أمام مكر التاريخ وإرادة الشعب .

لم ينجح عمر سليمان في تظهير الفوارق بينه وبين رئيسه . فعل ذلك متأخراً حين نبه مبارك إلى أنه هو البديل الصالح، ولكن في وقت متأخر في الأسبوع الأخير، حين أصبحت إطاحة النظام هي البديل الذي يزداد نضجاً . بذلك تم حجب الفوارق بينه وبين مبارك، وحمل وزره .

هكذا ظل عمر سليمان يحتفظ بطموحاته السياسية لنفسه، مع امتثال للتراتبية في نظام فرعوني شبه عسكري . لم يفعل مثل آخرين كعمرو موسى، وحتى عصام شرف الذين خرجوا من عباءة مبارك من دون أن يخرجوا عن النظام، ومن كان يسعه، كفرد، أن يخرج عن النظام آنذاك؟ . . آثر الصمت، ممنيّاً النفس أن تنضج الظروف الموضوعية لمصلحته، وقد نضجت بالفعل ولكن لغير مصلحته أو مصلحة أحد من النظام السابق .

وقد ضحى المجلس العسكري به حين رفض ترشيحه لأسباب تقنية، تتعلق بعدد غير كاف من التوقيعات في طلب الترشيح . وقيل إن سحبه تم للموازنة مع سحب أو رفض ترشيح السلفي حازم أبو اسماعيل . ولوحظ أنه لم يثر ضجة عقب رفض ترشيحه، واختار الانسحاب التام من الحياة العامة . وقد كان خبر وفاته في أمريكا مفاجأة كبيرة حتى لدى خصومه الذين هيأوا له جنازة عسكرية احتراماً لإحدى أهم المؤسسات السيادية التي كان يقودها .

والآن وبعيداً عن الجانب الشخصي الدرامي في حياة الرجل ونهايته، فإن غيابه المبكّر يشكل خسارة للمصريين من ناحية أنه كان يتوافر على أهم الأسرار المتعلقة بحقبة مبارك، وأن تلك الأسرار قد دفنت معه للأسف الشديد . وفي ذلك خسارة كبيرة للتراث السياسي والأمني للبلد، وكذلك للدولة المصرية الباقية رغم تغير النظام . الا إذا كان قد ترك وراءه نصوصاً أو كتابات موجزة تؤرخ لسيرته المهنية، وهو أمر مستبعد كون الشهور الأخيرة كانت مفعمة بصخب سياسي وتنازع دستوري، كان هو إلى حد ما جزءاً منه (واقعة ترشيحه للرئاسة ثم رفض الترشيح)، وهذا لم يوفر له أجواء مناسبة لاستعادة محطات مهمة من الماضي وتدوينها . علاوة بالطبع على التحرزات المهنية التي تتعلق بمهنة ذات طبيعة شديدة السرية، وقد كان الرجل طوال حياته المهنية مُقلاً في الكلام العلني وأمام وسائل الإعلام، وحتى لو كان الرجل قد ذهب إلى التقاعد . هناك في هذا الصدد ملفات كانت بين يدي الرجل منها ملف تنظيم التقارب بين حركتي فتح وحماس، والملف الأكبر من ذلك المتعلق بالعلاقة المصرية الرسمية مع تل أبيب . وهي علاقة في سياقها الرئيس كانت توافقية مع تل أبيب لجهة عدم المساس بالعلاقات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي والتطبيع الرسمي، وفي ذلك فليس للمرحوم عمر سليمان فضل اختلاف على رئيسه مبارك الذي أقر على سبيل المثال صفقة الغاز المهينة التي تمت بالطبع بعلم عمر سليمان وعدم اعتراضه عجزاً أو قبولاً أو ربما مصلحة، غير أن المزايا الشخصية على الأقل لعمر سليمان لم تكن موضع ارتياح لدى الصهاينة، وثمة الحادثة الشهيرة التي انتقم فيها شارون منه بدعوته إلى طعام غداء في مزرعته، فإذا بالوليمة مكونة من قطعتي سُجُق . وقيل أيامها في العام 2004 إن أزمة نشبت بين الحكومتين على خلفية هذه الإهانة من دون كشف التفاصيل . ولقائل أن يقول إن الدعوة كمبدأ هي إهانة بحد ذاتها لمصر وقبولها أشد مهانة، غير أن الحديث يدور هنا من منظور علاقة قائمة بين طرفين .

بوفاة هذا الرجل تطوى صفحة شديدة الأهمية في تاريخ مصر وإلى حد ما في تاريخ المنطقة أيضاً . ومع غياب وزراء خارجية مصريين منذ منتصف التسعينات ذوي مكانة وحضور في العالم، فقد لعب عمر سليمان أيضاً مثل هذا الدور، ولكن على صعيد السياسة الفعلية لا الأداء الدبلوماسي اللفظي كحال وزراء الخارجية المتأخرين . بعض من زاملوه وكذلك أفراد أسرته سوف تتجه إليهم الأنظار كي يكشفوا ما خفي واستتر في الأدوار الفعلية التي أداها وهي أدوار على جانب من الأهمية، سواء صنفت بأنها جيدة أو غير ذلك .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"