التركة الأمريكية في الشرق الأوسط.. لمن؟

03:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

روسيا تتحرك بتدرج محسوب لملء فراغ خلّفه الرحيل الأمريكي، ولكن ليس كل الفراغ. بعض الفراغ تحاول إيران ملأه، رغم مقاومة مارستها بعض دول المنطقة.
قابلت في الآونة الأخيرة عدداً من العقلاء الجدد، ومن العقلاء الأقدم، وقد اتفقوا على الأقل في الآتي من التحليل ومن رؤية أراها ثاقبة. واقع الأمر في الشرق الأوسط يصرخ منبهاً كل طبقات الحكم العربية وغير العربية وقادة الفكر وصنّاع الرأي إلى أن الولايات المتحدة خرجت من الشرق الأوسط. شكك المتشككون؛ عندما كنا نقرأ هذه النية الأمريكية واضحة على مختلف قسمات وجه الرئيس السابق باراك أوباما، ثم حين تجسّدت سياسة معلنة في تصرفات مساعديه وتسريباتهم ثم في وثائق الدولة الرسمية، ومنها خطط الأمن القومي الأمريكي وأجنداته وموازناته. وللمتشككين، وهؤلاء عنيدون في ثقتهم الفائقة بصدق شكوكهم، بعض العذر. هناك في شارع بنسلفانيا، وبالتحديد في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض رئيس للولايات المتحدة، مستعد تماماً للتخلي عن التزام بلاده بسياسة أقرت أو بمبدأ استقر أو بعقيدة رسخت، مقابل مبالغ نقدية أو صفقات تجارية تعود بنفع عاجل جداً على شعبية الرئيس شخصياً وحظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. هذا الرئيس فاجأ الدنيا بموقف حين راح يبالغ في تأكيد التزام بلاده بسياسة تفضي إلى سحب قوات أمريكا المسلحة من الشرق الأوسط، ولعله الالتزام الوحيد أو بين التزامات نادرة ورثها عن سلفه ولم ينقضها أو يتنكر لها. راح يبالغ في تأكيد التزامه بأنه قرر أن يتزامن الانسحاب العسكري الأمريكي مع الغزو التركي لشمال سوريا، رغم التحذيرات التي نبهت إلى خطر العودة «الداعشية». لن يخفي الرئيس ترامب استعداده القبول بسمعة الارتزاق العلني في مسائل التحالفات والعلاقات العسكرية، رمزاً للدولة الأمريكية الجديدة، التي يحلم ويسعى إلى وضع أسسها.
لست متأكداً من أننا يمكن أن نجتمع على تلخيص وافٍ للحالة الحادة التي يعيشها الشرق الأوسط هذا الصباح في اللوحة التالية، ومع ذلك تعالوا نجرب.
* أولاً: أمريكا راحلة، أو لنكن أقرب إلى الدقة سعياً للتوافق المنشود على صيغة للحالة الراهنة، سنقول: أمريكا راحلة على وعد أن تعود كلما دعت الحاجة في الخليج إلى عودة رمزية مدفوعة الكُلفة كاملة، أو عودة عند الحاجة في «إسرائيل» لظرف طارئ.
* ثانياً: وهو الأهم بالنسبة لنا الآن، روسيا تتحرك بتدرج محسوب؛ لملء فراغ خلّفه الرحيل الأمريكي، ولكن ليس كل الفراغ. بعض الفراغ تحاول إيران ملأه، رغم مقاومة مارستها بعض دول المنطقة. روسيا تفهمت. تفهمت مقاومة بعض العرب، وتفهمت في الوقت نفسه جهود إيران؛ لملء بعض الفراغ وليس كل الفراغ في بعض المواقع وليس في كل المواقع.
بعض آخر شغلته بالفعل أو تحاول شغله دول ومصالح أخرى. لن تعترف، أو على الأقل لن تجاهر، دول في المنطقة بأنها سمحت ل«إسرائيل» بشغل حيز من فراغ لئيم سربته الولايات المتحدة لتملأه مصالح «إسرائيلية» قبل الرحيل. هذا الجزء من الواقع تقبله روسيا شرطاً من شروط الرضا الصهيوني عن استلام روسيا الجانب الأعظم من التركة الأمريكية في الشرق الأوسط. ها هي الروح الإمبراطورية لروسيا تتجدد على شواطئ المتوسط الدافئة. بدت ثقة بوتين أيضاً واضحة في أن روسيا الجديدة قادرة على أن تدير بكفاءة النزاعات الناشبة باستمرار بين مكونات لوحة الفسيفساء المعروفة باسم الشرق الأوسط.
نلاحظ بالاهتمام المناسب كيف تتعامل روسيا مع الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، أقصد غير العربية. هدفنا من الملاحظة التوصل إلى قراءة أقرب ما تكون للواقع توضح لنا الأساليب التي تنوي روسيا انتهاجها خلال المرحلة المقبلة، من حكم الرئيس بوتين، مرحلة «هيمنتها» في الشرق الأوسط. أعتقد أن روسيا لن تستخدم أسلوباً موحداً يصلح للتعامل مع كل أنظمة الحكم في دول الجوار غير العربي. يستند هذا الاعتقاد إلى وقائع التاريخ والثقافة السياسية.
روسيا، كانت تحكمها تقاليد وقواعد إمبراطورية. بمعنى آخر تجيد روسيا قواعد التعايش مع أعراق متباينة وثقافات بعضها موغل في التقاليد، وأخرى غاطسة في شعائر الدين وعشائره وطوائفه. وتبقى تركيا المثال البارز لهذه الحالة الفريدة في نظام الهيمنة الجاري، حالياً، صُنعه في الشرق الأوسط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"