محنة المدنيين في ظل التدخل الروسي

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

ما زال الجانب الإنساني في المحنة السورية المتطاولة يحظى بأقل القليل من اهتمام الدوائر السياسية. وحتى يحين يتم الحديث عن حلول سياسية مرتقبة أو مفترضة، فإن هذه الحلول لا تتناول الجانب الإنساني المتعلق بحياة المدنيين وبملايين المشردين وعددهم نحو 15 مليوناً أكثر من ثلثهم مشردون داخل وطنهم بغير مأوى أو حماية.
العنف المستمر والمتسع أعاق جهود الإغاثة الدولية، وقد بدا واضحاً منذ سنوات أن لا أحد من الفاعلين السياسيين معني باستمرار هذه الجهود، حتى بات الحديث عنها نادراً في وسائل الإعلام، ما يجعل من المحنة السورية الأقل بين الصراعات والحروب التي تحظى بتسهيل جهود الإغاثة، إذ إن ما يتم على أرض الواقع هو إغلاق السبل بإحكام أمام تلك الجهود، بحجة أن سلامة أي فريق للإغاثة غير مضمونة. وبينما يتواصل على مدى الساعة نشر صور وأفلام الدمار والضحايا المدنيين في غير منطقة، وصور من يفقدون المأوى ويهيمون على وجوههم، فإن العالم بات يقف متفرجاً على هذا المسلسل الرهيب الطويل.
وقع منذ نحو أربعة أسابيع التدخل الروسي العسكري في سوريا. وبينما يجري الحديث في وسائل الإعلام الروسية بكثافة لا سابق لها حول الإرهاب ومكافحة «داعش»، فإن مصادر شتى تتحدث يومياً عن سقوط مدنيين في الغارات. و يقدر عدد الضحايا المدنيين حتى تاريخه بالمئات. وكأن السوريين كان ينقصهم المزيد من حفلات القتل. نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف قال في حديث منسوب له عقب لقائه في القاهرة قبل أسبوع بأحمد الجربا الرئيس السابق للائتلاف، إن سقوط مدنيين يحدث في الحروب، واستشهد بتعرض مشفى أفغانستان لقصف أمريكي.
وبينما اعترفت واشنطن بالحادث وتعهدت بالتحقيق به، فإن موسكو لا تتحدث على الإطلاق عن الضحايا المدنيين الذين يسقطون كل يوم نتيجة غاراتها، بل إن مشافي ومدارس ومساجد تعرضت للقصف. لا اعتراف رسمياً بذلك من موسكو، ولا اعتذار، ولا تعهد بتجنب استهداف المدنيين، كل ما في الأمر هو تصريحات لفظية نافية يسهل إطلاقها، حيث يتكفل غبار القصف بالتمويه على وجوه الضحايا وأعدادهم، وبالطبع دون أي حديث عن أعمال إغاثة مطلوبة في المناطق التي تتعرض للقصف. موسكو تصف تدخلها العسكري بأنه «عملية جوية» ومغزى ذلك أن مسرح العملية هو في الفضاء والجو، ولا شأن لأصحاب القرار بما يجري على الأرض باستثناء التهيئة للتمكين والسيطرة لمن تريد لهم أن يتمكنوا ويسيطروا على الأرض، بصرف النظر عن النتائج «الجانبية» من قبيل سقوط ضحايا مدنيين قل عددهم أو كثر، هذا بينما يغفل بقية العالم عن إدانة استهداف المدنيين أياً كان الفاعل باستثناء مواقف عابرة متناثرة، سرعان ما يطغى عليها الحديث عن المعادلات العسكرية وآفاق الحلول السياسية، باحتساب أن ذلك هو الأهم، فيما يتراجع الحق بالحياة البشرية إلى أدنى درجات الاهتمام. وهذا هو المنزلق الخطير الذي اندفعت إليه المحنة السورية، حيث يجري التواطؤ على إقصاء الجانب الإنساني عن دائرة الاهتمام، باعتبار أن وجود البشر المدنيين العزل أو عدمه لا يقدم ولا يؤخر في المعادلات، مقارنة بالقوى العسكرية الجبارة التي تحسم الأمور، و بصرف النظر عمن يموت أو يصاب أو ينجو من البشر الذين لا وزن لهم لدى الخبراء والاستراتيجيين والجنرالات والقائمين على رسم الخرائط.
لقد سقط عشرات المدنيين في إدلب وحمص وحماة واللاذقية وريف حلب منذ بدء الغارات الروسية في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، والأعداد مرشحة للارتفاع للأسف الشديد ما دام الاندفاع العسكري الاستعراضي في شتى الاتجاهات متواصلاً بغير كابح، وما دامت هذه الفظائع المتكررة وشبه اليومية لا تلقى ما تستحقه من إدانة أخلاقية وسياسية وقانونية تخاطب مرتكبيها حتى لو كان هدفها نبيلاً.
يتردد بين السياسيين أن وضع الحلول السياسية ومنحها فرصة التنفيذ سوف يؤدي حكماً إلى معالجة الجوانب الإنسانية للصراع وهذا صحيح.. ولكن جزئياً، فلو كان هناك اهتمام بالحد الأدنى من الجانب الإنساني، ومحاولة فرض هذا الاهتمام على المتعنتين أياً كانوا، لكان أمكن شق الطريق إلى حل سياسي قبل هذا التاريخ بأمد طويل، ولأمكن تقييد استباحة حرمة الحياة البشرية التي تشكل الملمح الجوهري للكارثة السورية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"