ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية . . هل من متعظ؟

05:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . غسان العزي
في إبريل/نيسان 1975 انطلقت شرارة حرب طويلة مدمرة في لبنان من اعتداء قام به مسلحون من حزب الكتائب على حافلة تقل فدائيين فلسطينيين . كان لهذه الحرب مقدمات اقتصادية اجتماعية وثقافية وسياسية وإيديولوجية وأمنية سال في تحليلها حبر كثير .
طوال السنوات الخمس عشرة التي كانت تأكل فيها الحرب الأخضر واليابس بقي المحللون على انقسامهم حيالها . فمنهم من اعتبرها حرباً أهلية لبنانية، ومنهم من رأى بأنها إقليمية بل عالمية تدور رحاها في الساحة اللبنانية - حروب الآخرين على أرضنا - على ما عنون غسان تويني كتابه الشهير بالفرنسية .
في بداياتها كانت الحرب عبارة عن مناوشات بين أحزاب اليمين المسيحي المنضوية تحت مسمى "الجبهة اللبنانية" من جهة، والتي كانت تريد المحافظة على النظام السياسي القائم والنأي بلبنان عن قضايا فلسطين والمنطقة، و"الحركة الوطنية" التي تجمع تحالف اليساريين والقوميين والشيوعيين وغيرهم من الجهة المقابلة، والتي كانت تحمل مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية إصلاحية وتؤيد عروبة لبنان واحتضانه للمقاومة الفلسطينية المسلحة . لكن مع الأيام غرق كل من الطرفين في أتون الصراعات البينية على الزعامة والحصص، كما أضحيا فريسة لاستراتيجيات الداعمين الخارجيين .
التدخل العسكري السوري أسهم في إطفاء جذوة الحرب، ولكن لفترة جد محدودة أضحى العامل السوري بعدها في صلب المعادلة . بل أكثر من ذلك تصرف السوريون في لبنان كما الاطفائي المهووس الذي يشعل الحريق ثم يتدخل لاطفائه طمعاً بالمكافأة . وبات لبنان مكسر عصا قبضايات المنطقة بل العالم . فالمعاهدة المصرية "الإسرائيلية" وانتصار الثورة الايرانية الخمينية والحرب العراقية الإيرانية واحتلال السوفييت لأفغانستان، فضلاً عن الصراعات البينية العربية، لاسيما بين شقي حزب البعث العراقي والسوري . . . إلخ . كانت كلها تترك أصداء مدمرة وتتسبب بجولات وصولات عنف جديدة في الساحة اللبنانية بين مؤيد ومناوئ لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك .
كل مخابرات العالم كانت هناك وكل تجار أسلحته وإيديولوجياته . وبتنا في "حرب الكل ضد الكل"، الفلسطينيون ضد اللبنانيين والسوريون ضد الفلسطينيين والمسلمون ضد المسيحيين واليسار ضد اليمين و"إسرائيل"
ضد الكل والسوفييت ضد الأمريكيين والماويون ضد السوفييت . . . إلخ . واختلط الحابل بالنابل، الأمر الذي عبّد الطريق أمام اجتياح عسكري "إسرائيلي" وصل إلى قلب بيروت بعد مواجهات شبهتها الصحافة الغربية بمعارك ستالينغراد .
شكّل الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان منعطفاً في تاريخ هذا البلد الذي أنتج مقاومة وطنية، قبل أن تتحول إلى إسلامية، تمكنت من قهر الاحتلال وإجباره على الانسحاب من بيروت ثم الجنوب، واستمرت في ملاحقته إلى الحدود .
النظام السوري، من جهته، برع في توظيف الانتصارات اللبنانية على "إسرائيل" لمصلحته، كما لمع في قطف ثمار التحولات في لبنان والمنطقة . ومن الأمثلة الكثيرة في هذا المجال كان الاتفاق مع الأمريكيين على بسط وصايته الكاملة على لبنان، الذي توقفت فيه الحرب بفضل اتفاق الطائف في نهاية العام ،1989 في مقابل تدخله العسكري إلى جانب الائتلاف الدولي ضد العراق الذي احتل الكويت . وبعدها بدأت مسيرة إعمار البلد على يد رجل الأعمال رفيق الحريري الذي أضحى من أشهر رؤساء الوزراء في تاريخ الجمهورية .
لم تنته الحرب اللبنانية إلا في الظاهر، إذ بقيت كل أسبابها كامنة كالنار في الرماد . ولم تتوقف الاعتداءات "الإسرائيلية"، بل بقيت تتأرجح بين هجومات كبيرة، كما في العامين 1993 و1996 وعمليات قصف للبنى التحتية، كما في الأعوام 1998 و1999 و،2000 هذا العام الأخير الذي شهد تحرير الجنوب اللبناني من رجس الاحتلال وعملائه، وصولاً إلى حرب يوليو/تموز 2006 .
وكان الرئيس الحريري قد اغتيل في العام ،2005 واضطرت القوات السورية للانسحاب من لبنان بطريقة مهينة بعد اتهامها بهذا الاغتيال . وعادت الحرب الأهلية لتطل مجدداً بلباس مذهبي هذه المرة، وكالعادة على خلفيات إقليمية .
واليوم نسمع كلاماً كثيراً بأن اللبنانيين اتعظوا من الحروب المدمرة على أرضهم، وبالتالي فلن يشهروا السلاح مجدداً ضد بعضهم البعض . هذا ليس صحيحاً البتة، بدليل الانقسام الخطر بينهم على خلفيات مذهبية وإقليمية وغيرها . وبدورها لا تزال الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية للحرب قائمة، ويكفي أن نعيد قراءة أدبيات عشية العام 1975 لنتأكد من أن التاريخ يعيد نفسه أو يعود بحلة جديدة . الداعمون الإقليميون والدوليون مازالوا يمولون الانقسامات اللبنانية على إيقاع مصالحهم واستراتيجياتهم . جل ما هناك أنهم لا يشعرون بالحاجة إلى تفجير الساحة اللبنانية، في وقت تحبذ الدول العظمى، لأسباب خاصة بمصالحها، النأي بلبنان عن حرائق المنطقة . إنها حرب أهلية مضمرة أو مستترة تنتظر إشارات خارجية كي تعلن عن نفسها، وندعو الله أن لا تأتي مثل هذه الإشارات .
أربعون عاماً مرت من أجل لا شيء . لقد دلت تجارب الحروب الأهلية في العالم بأنها غالباً ما تنتهي بالتأسيس لعقد اجتماعي جديد يجعل من عودتها أمراً مستحيلاً . في لبنان أسست الحرب لحروب جديدة ولو بأشكال متنوعة . أخطر من ذلك أن الصيغة اللبنانية، التي تحمل في أحشائها فيروس النزاعات المتجددة، استوردها العراق فتلبنن المسكين . وانتقلت الحروب العبثية، على الطريقة اللبنانية، إلى دول الجوار من سوريا إلى اليمن مروراً بليبيا، والتي أضحت هي الأخرى مذهبية وإقليمية ودولية معاً، داخلية و"حروب الآخرين" في الآن نفسه . . وما من متعظ .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"