من نهج "الثورة" إلى فكر "الإصلاح"

04:12 صباحا
قراءة 5 دقائق

هذا عنوان كتابٍ صدر لي عام ،2002 فنحن إذاً، لا نستثمر الظروف الاستثنائية لتحقيق ما فشلنا فيه في الظروف الطبيعية، ولعلنا نشير إلى ما كتبناه عبر الأعوام الأخيرة بما أدى إلى حجب مقالنا لمدة عامٍ كامل في الأهرام . ووقوعنا تحت طائلة هجوم شرس من صحافة الحزب الوطني الذي كنا ننتمي إليه . ونحن لا ندعي الآن البطولة أو نتبرأ من تاريخنا السياسي بما له وما عليه، والذي بدأ منذ منتصف ستينيات القرن الماضي مع ازدهار سنوات الحلم القومي في عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ولكننا نتقدم اليوم ببعض الأفكار التي نرجو أن تسهم في الخروج من الحلقة المغلقة للمشهد المصري الراهن، خصوصاً أننا قد اكتشفنا أن مصر أكبر مما كنا نتخيل وأن شعبها أعظم مما كنا نتصور . ويكفي أن نتذكر أن الرئيس الأمريكي أوباما كان يطل على مشاهديه عبر العالم كله متحدثاً عن مصر أكثر من مرة في اليوم الواحد، بل إن وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون قد تحدثت عن مصر رسمياً في الأيام الأخيرة أكثر من عشر مرات فضلاً عن المتحدث الرسمي باسم الإدارة الأمريكية والمبعوث الخاص السفير الأسبق فرانك وزنر، بل إنني قد تلقيت شخصياً عدداً من الاتصالات الداخلية والخارجية تعكس حجم الاهتمام بالوطن المصري والحرص عليه، فلقد اتصل بي مرتين خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس متمنياً كل ما هو في مصلحة مصر الدولة المركزية المحورية في المنطقة، كما اتصل بي الإمام الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق والزعيم الروحي لحزب الأمة مؤكداً تضامنه مع مصر، وموضحاً أن ما يجري فيها سوف يؤثر بالضرورة في ما يجري في السودان . كذلك اتصل بي أيضاً من أختلف معهم في الرأي ولكنني أحتفظ معهم بحبال المودة وأخوة الوطن مهما تباينت الاتجاهات واختلفت المعتقدات، وأذكر في ذلك السياق الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للإخوان المسلمين الذي اتصل بي أكثر من مرة مبدياً آراءه ومؤكداً حرصه على سلامة الوطن واستقراره، كذلك فعل صديقي محمد إحسان عبدالقدوس بنقائه الثوري وتلقائيته المعروفة، كما تحاورت مع عشرات من المفكرين والقانونيين والساسة ومئات الشباب، بل ذهبت إلى معقل تظاهرهم في ميدان التحرير مستطلعاً ومستمعاً، ورغم بعض المضايقات التي تعرضت لها فإنني وجدت نفسي أمام مشهدٍ جديدٍ في تاريخنا الوطني المعاصر، كل ذلك في وقتٍ يقف فيه العالم العربي على أطراف أصابعه يرقب ما يجري في الكنانة، لأنه يدرك بفطرته أن ما يحدث فيها يحدد مستقبل الأمة برمتها، كما أن الدولة العبرية بدت كامنةً في خبث معهود تتابع ما يجري في مصر وتستشرف تأثيره على مستقبل السلام في المنطقة، وبهذه المناسبة فإنه لا يخالجني شك في أن إسرائيل هي التي تحدد الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط ومواقفها المختلفة من نظمه السياسية، والآن دعنا نطرح الأفكار الآتية:

* أولاً: إن الدستور هو أبو القوانين، ولا شك أن تعديله يفتح أبواباً رحبة أمام وصول من يستحق إلى منصب الرئيس مع وضع حدٍ لمدة البقاء في السلطة، كما يسمح بالإشراف القضائي على الانتخابات، ولكن الأهم من ذلك في ظني هو مراجعة شاملة للدستور المصري في مرحلة لاحقة قد تنقلنا من النظام الرئاسي المطعم ببعض سمات النظام البرلماني إلى نظامٍ برلماني كامل يوجد فيه رئيسٌ يملك ولا يحكم بحيث يصبح حكماً بين السلطات ولديه وزارة مسؤولة أمام البرلمان يعطيها الثقة أو يسحبها . وأنا شخصياً خدمت في دول ثلاث بصفة دبلوماسي مصري، وكانت المصادفة أن تلك الدول الثلاث (بريطانيا والهند والنمسا) تأخذ بدرجة عالية من خصائص النظام البرلماني وسماته الدستورية والسياسية، بل إن إسرائيل تأخذ بذلك النظام أيضاً، ولقد كتبت في هذا الشأن عدة مرات في السنوات الأخيرة وقرأت تعليقاً على مشروع الأخذ بالنظام البرلماني في مصر للدكتور وحيد عبدالمجيد بمقال تحت عنوان خرافة النظام البرلماني، لذلك فإنني أضيف بهذه المناسبة أننا لا نطلب ذلك في المدى القريب، ولكننا نحلم به على المدى الطويل، لأن الدولة البرلمانية تمثل لمصر خروجاً من إطار الفرعونية السياسية وحكم الفرد، وتجعل من رئيس الوزراء مديراً لشؤون البلاد والعباد قابلاً للتغيير في أي لحظة، كما تفتح الباب أمام تداول السلطة ودوران النخبة وتحول دون تأليه حكم الفرد . إنني أتطلع إلى النموذج التركي ولا أمانع فيه بينما أخشى النموذج الإيراني ولا أتحمس له .

* ثانياً: إن القول بأن النظام السياسي المصري يأخذ من النظام الفرنسي معظم ما فيه بحيث يبدو مزيجاً بين النظامين الرئاسي والبرلماني هو قول مردود عليه، ومازلت أتذكر من مناقشات تعديل الدستور عندما كنا نطالب بتغيير المادة 77 لوضع حدٍ أقصى لوجود رئيس الجمهورية في السلطة بفترتين فقط، أن كان الرد أن النظام الفرنسي قد ترك المدد الرئاسية مفتوحة وللشعب حرية الاختيار، وفي ظني أن ذلك الرد كان كالحق الذي يراد به باطلاً، لأن الشعب الفرنسي مختلف عن الشعب المصري في المستوى الثقافي والحرية السياسية والكفاية الاقتصادية، فضلاً عن رسوخ تقاليد الديمقراطية في فرنسا بلد الحريات والثورة بمبادئها في الإخاء والعدل والمساواة، كما أن الدستور في النهاية هو ابن الظروف التي يصدر فيها والمجتمع الذي يعبر عنه .

* ثالثاً: إن رئيس الوزراء في النظام البرلماني حزبي له برنامج واضح وتوجهات محددة يختاره الشعب وفقاً لما يراه، لذلك فإنه يعبر عن إرادة الأغلبية أو يكون عضواً في ائتلافٍ حاكم، ويدرك أن تغييره وارد في أي وقت فلا يدعي الإلهام ولا يتصور نفسه حالة خاصة، ويبدو وكأنه موظف لدى الجماهير وليس سيداً لها أو حاكماً عليها، فالسلطة في مصر - أيها السادة - نقلة ضخمة يجب أن نقلل من تأثيرها وأن نضرب سطوتها بحيث تصبح أقرب إلى التكليف منها إلى التشريف، ولا يتحول أصحابها إلى جالسين على منصة عالية في استعلاء واستقواءٍ وعزلة .

* رابعاً: أريد أن أقول صراحةً ما كررته عشرات المرات من قبل وهو أنه رغم اختلافي مع جماعة الإخوان المسلمين مئة وثمانين درجة فكرياً، إلا أنني داعم لحقهم في التعبير عن الرأي مئة وثمانين درجة سياسياً، وأنا أظن أنهم قد ربحوا نوعاً من الاعتراف الرسمي بعد مشاركتهم في انتفاضة 25 يناير ،2011 فبعد أن كانوا الجماعة المحظورة أصبح يلتقيهم نائب الرئيس السابق في القصر الجمهوري كجزءٍ من الحوار الموسع مع القوى السياسية المختلفة، وما أكثر ما قلت مراراً من أن لدينا وجوداً سياسياً على المسرح لرموزٍ ليس لها رصيدٌ في الشارع، بينما هناك قوى سياسية على الساحة ولكن دورها مهمش ووجودها في مواقع السلطة محدود، وأنا أريد أن يدرك الجميع أن الشارع الآن هو سيد الموقف، فالحركة الثورية الأخيرة في مصر قادها شباب الشارع ولم تقدها الأحزاب السياسية ولا حتى الجماعات الاحتجاجية، وليكن معلوماً أن الشارع هو الذي يعطي ختم الصلاحية للتجمعات الجماهيرية بل والأحزاب السياسية أيضاً .

* خامساً: إنني مقتنع تماماً أن الإصلاح منظومة متكاملة، وكثيراً ما حذرت من تزاوج السلطة والثروة عبر السنوات العشر الأخيرة، مؤكداً أن المحصلة سوف تكون هي الفساد، وكذلك عن تداخل الدين والسياسة حيث المحصلة هي التطرف، فإذا أردنا وطناً حديثاً ودولة عصرية فإن علينا أن نؤمن باتخاذ كافة خطوات الإصلاح بلا تردد على الصعد الدستورية والتشريعية والسياسية والاقتصادية بل والثقافية والاجتماعية حتى تشيع لدينا ثقافة الحرية والشعور بالتكافؤ والندية على نحوٍ يضرب الفساد، ويدخل معركة حاسمة مع الفقر ويفتح طريقاً للعدالة الاجتماعية المفقودة، مع إعادة النظر في حقوق الفئات المهمّشة من الشعب لأسباب تتصل بالدين أو الجنس أو الشرائح العمرية .

. . إننا باختصار نتطلع إلى دولةٍ تليق بقامة مصر وحضارتها، بتاريخها وثقافتها، بنيلها وشعبها، فهي بحق أم الدنيا المحروسة دائماً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"