الإفلاس ضرورة تصحيحية

01:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

بدا العام المنقضي 2009 عام قمة الأزمة التي ضربت النظام المالي العالمي وصاحبها ركود اقتصادي عميق . ورغم أن الأزمة بدأت قبل عامين، مع تدهور القطاع العقاري الأمريكي وانكشاف البنوك والمؤسسات المالية الكبرى على أزمة ما سمي بالقروض العقارية الرديئة، فإن العالم أصبح يؤرخ لها بالعام 2008 وقمته انهيار مصرف ليمان براذرز الاستثماري الأمريكي العملاق . لكن عام الأزمة الحقيقي، أي ظهور أغلب تبعاتها وأعراضها فهو العام الذي نودعه . إذ أطبق فيه الركود على كثير من الاقتصادات المتقدمة، وان بدا أنها تخرج منه (تقنيا) مع نهايته لكنه تعاف هش لم يتماسك بعد .

ومع قمة الأزمة العام الماضي، برزت بعض الآراء التي تشكك في القاعدة الاقتصادية الرأسمالية الراسخة بأن السوق الحر المفتوح قادر على تصحيح نفسه بنفسه . وتعززت تلك الآراء بتدخلات حكومية بتريليونات الدولارات، خاصة في اقتصادات الدول الرأسمالية المتقدمة، لإنقاذ النظام المالي من الانهيار ولتلافي تبعات ذلك على الاقتصاد بشكل أوسع . لكن خطط الانقاذ الحكومي تلك من الأموال العامة لم تكن لتوقف موجة تصحيحية طبيعية وضرورية لكي تعمل آليات السوق بالشكل المطلوب . وهكذا شهد عام 2009 موجة من عمليات الإفلاس والتخلف عن سداد المستحقات الواجبة غير مسبوقة في حجمها ومداها تتفق مع شدة الأزمة المالية العالمية وعمق الركود الاقتصادي .

وفي تقرير حديث لها قبل نهاية العام، ذكرت مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز أن حجم عمليات الإفلاس والتخلف عن السداد في قطاع الشركات المصدرة للسندات في العالم هذا العام غير مسبوق منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن . ووصل عدد الشركات المصدرة لسندات وتخلفت عند سدادها عند استحقاقها 260 شركة منذ مطلع العام، كان أحدثها في الولايات المتحدة في النصف الأول من ديسمبر/ كانون الأول . ولبيان دلالة الرقم وأهميته في سياق كون العام عام أعراض الأزمة العالمية الاشد، يشار إلى أن آخر كساد قبل هذا شهده الاقتصاد العالمي كان عام 2001 وبلغ عدد الشركات المتخلفة عن السداد ذاك العام 292 شركة . أما العام الماضي فكان عدد الشركات المماثلة 126 شركة، ما يعني أن أرقام هذا العام تزيد على ضعف العام الماضي . وفي تقسيم الأرقام، بلغ عدد مصدري السندات ممن تقدم بطلبات حماية من الدائنين لإشهار الإفلاس 70 شركة، وعدد من تخلف عن دفع مستحقات او فوائد 89 شركة، أما الشركات المتبقية (101) فكانت مشكلتها في تراجع سعر الصرف . وجغرافيا على مستوى العالم، احتلت الولايات المتحدة الأمريكية المقدمة طبعا كونها أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي 188 شركة، تلتها الاقتصادات الصاعدة بعدد 36 شركة، و20 شركة في أوروبا، أما ال16 شركة الباقية فكانت من اقتصادات متقدمة أخرى كاليابان وغيرها .

وتزامن تقرير ستاندرد اند بورز مع الإعلان عن أحدث مجموعة بنوك أمريكية منهارة هذا العام بإغلاق سبعة بنوك جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية منتصف ديسمبر/ كانون الأول . وهكذا أصبح عدد البنوك المنهارة في أكبر اقتصاد في العالم في العام 140 بنكاً . وكلف ذلك شركة تأمين الودائع الفيدرالية الأمريكية Federal Deposit Insurance Corporation (FDIC) مليارات الدولارات . ويعد هذا العام قياسياً في إغلاق البنوك في الاقتصاد الأمريكي، وأيضاً في إفلاس مصدري السندات أو التخلف عن سداد المستحقات الواجبة .

ومع أن هناك الكثير من التفاؤل بالعام المقبل ان يكون عام بداية التعافي الحقيقي، إلا أن آثار الأزمة المالية لم تنته بعد، ومن المتوقع أن يشهد عام 2010 مزيداً من اغلاق البنوك ومن إفلاس الشركات . وإذا كانت أغلب التقديرات ترى أن معدل الإغلاق والإفلاس سيكون أقل بدرجة لافتة في العام المقبل عن العام الجاري، فلا يمكن استبعاد أن تكون الأرقام كبيرة أيضاً قياسا على أزمات سابقة مر بها الاقتصاد العالمي .

ورغم المشكلات المصاحبة لتلك العمليات، إلا أن حجمها هذا يعد مؤشراً صحياً على حركة التصحيح في الاقتصاد العالمي وتلافي التشوهات التي قادت إلى الأزمة . وإلى جانب التخلص من الوحدات الاقتصادية الميؤوس من إصلاحها، هناك عامل جانبي آخر في غاية الأهمية وهو أن تلك الاغلاقات والإفلاسات تسهم على المدى الطويل في تفريغ فقاعة التضخم المغالى فيه في قيمة الأصول . وكانت تلك المبالغة عاملاً أساسياً في انفجار الأزمة المالية العالمية وما صحبها من ركود عميق . ومن شأن تلك التبعات المرة الآن أن تصحح كثيراً من النظام وتضمن استمراره بقدرته على تصحيح نفسه بنفسه . وربما تلك الأعراض المؤلمة كأدوات تصحيح ضرورية أيضاً لإثبات أن التدخلات الحكومية عبر خطط الانقاذ لم تبطل آليات السوق عن العمل وأنها كانت من أجل الغرض الذي طرحت من أجله وهو مجرد الحفاظ على النظام وليس إبطال مفعول آلياته بالحيلولة دون الإفلاس أو التخلف عن السداد .

* خبير اقتصادي
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"