بعيداً عن مسلسل سياسي لا ينتهي

02:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
لا يعرف المرء إذا كان يخطر ببال القادة الفلسطينيين المنقسمين أن الجمهور لم يعد يبالي بانقسامهم ولا بمصالحاتهم، وأن الأخبار المتعلقة بالحوارات بينهم لم تعد تثير فضول أحد؟ الجواب عن التساؤل أن القادة المعنيين لا يدركون هذا الأمر، بدليل أنهم لا يخاطبون جمهورهم، ولا يتفاعلون قبل ذلك معه. هذا الانقطاع عن الواقع لدرجة تكاد تقترب من إنكاره، هي التي تجعل القادة لا يكلون ولا يملون من السفر والترحال وعقد جولات الحوار تلو الجولات، مع المراوحة الدائمة بين التفاؤل والتشاؤم، وإبقاء بعض الأمور معلقة، وذلك لضمان إجراء جولات جديدة من الحوار لا تسفر عن شيء يتعلق بحياة الفلسطينيين وبتطورات قضيتهم الوطنية.
ها هي القاهرة تستأنف بعد انقطاع دام نحو خمس سنوات، استضافة لقاءات للفصائل، وتوجه دعوات لأطراف مختلفة من بينها حماس، بعد أن أكمل الانقسام بين السلطة في رام الله وغزة عقده الأول، وكأن الفلسطينيين ومعهم أشقاءهم العرب مدعوون إلى الأبد، لمتابعة مسلسل الانقسام والمصالحة، بينما العدو ينهش الأرض والمقدسات، ويُطبق على مفاصل الحياة اليومية للجمهور، ضارباً عرض الحائط بكل اتفاقيات سابقة وعلى رأسها اتفاق أوسلو، لمصلحة برنامجه الجذري القاضي بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض وترك الفلسطينيين يختنقون خارج الجدار وخارج القدس المحتلة. حتى إن معلقين صهاينة كثر يأخذون على نتنياهو وإفراطه في التمثيل والكذب، وإغلاقه سبل الحلول السياسية، محولاً الحق الفلسطيني بدولة مستقلة في حدود الرابع من حزيران 1967 إلى حلم أجوف لدولة بلا أرض.

غير أن الفصائل تتصرف وكأن مصيرها هي كتنظيمات، يتقدم في الأهمية على مصير القضية نفسها. وتنشط العديد من الفصائل في إقامة صلات مع قوى إقليمية ودولية، بما يضمن دوام الحاجة إلى هذه التنظيمات ودوام مصالحها، لكنه لا يضمن شيئاً للقضية نفسها أو للشعب الأسير. والانقسام نفسه يشكل في أحد وجوهه مصلحة لاستجرار الدعم، لدرجة يخشى معها المنقسمون بالفعل على مواردهم أو شبكة علاقاتهم لو توقف الانقسام. علماً بأن هذه الحالة المتشظية تمنع ترميم الوضع الذاتي، وتحول دون إجراء انتخابات تشريعية وما زال الكيان الفلسطيني بغير مجلس تشريعي منتخب، وفي وقت يعزز فيه العدو جهوده لمنع وجود ذراع تشريعية تضمن وجود المؤسسية والفصل بين السلطات وقبل ذلك تمثيل الجمهور بصورة ديمقراطية مع تعطيل إمكانية التواصل مع برلمانات العالم. وما ينطبق على التمثيل النيابي الغائب ينسحب على انتخابات رئاسة السلطة وحيث يجري التمديد للرئاسة بصورة ذاتية من طرف الرئاسة نفسها، والخشية من الفراغ الذي يمكن للاحتلال أن يستغله، هي وحدها التي تجعل الجمهور يقبل بحكم الأمر الواقع.

في باب المصالح التنظيمية والفئوية فإن حركة حماس تصر على الاحتفاظ بأعداد كبيرة من الموظفين قامت الحركة بتعيينهم بعد استيلائها على السلطة في غزة قبل نحو عشر سنوات. وترفض الحركة حتى تاريخه الاحتكام إلى لجنة قانونية لدراسة وضع هؤلاء الموظفين. عدا ذلك يقع الخلاف حول ما يسمى البرنامج السياسي، ويقول المرء: ما يسمى، لأن من يشاء من الفصائل بوسعه أن يتجاوز أي برنامج سياسي حين يتعلق الأمر بمصالحه وبعلاقاته مع أطراف خارجية. ومع ذلك فإن اجتماعاً قيادياً لا يعقد بمشاركة الجميع من أجل التوصل إلى هذا الاتفاق العتيد، رغم أن أكثر من عاصمة عربية باتت ترحب باستضافة مثل هذه اللقاءات (ولكن الترحيب لن يستمر إلى الأبد.. بالطبع).

لقد باتت الحياة السياسية الفلسطينية بحاجة ماسة إلى جسم تمثيلي يعكس الطموحات الوطنية ويحدد سلم الأولويات ويوفر مقومات الصمود، وليس المطلوب هو تجاوز السلطة أو الطعن بشرعيتها (رغم أن هذه الشرعية من الناحية الدستورية مثلومة)، بقدر ما أن الأمر يتعلق بالحاجة إلى إجراء انتخابات عامة ورئاسية، علماً بأن تحقيق هذا الهدف دونه صعوبات وعراقيل موضوعية جمّة، يضعها الاحتلال بالدرجة الأولى، غير أن هذه معركة تستحق أن تُخاض حين تتوفر الإرادة السياسية للفصائل ولكبار المنقسمين من أجل الوفاء بهذا الاستحقاق السياسي والوطني، ومن أجل تمكين الجمهور من المشاركة في تقرير مصيره.

إن تكلس الفصائل ودورانها في فلك مصالحها الفئوية، والعصبية السلطوية المتمادية في كل من غزة ورام الله، باتا يشكلان معاً عائقاً ذاتياً عنيداً أمام تقدم المشروع الوطني، حتى أمام تماسك النسيج الاجتماعي.

محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"