«الهندوية» وروح غاندي

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الحسين شعبان

لم تتوقّف الاحتجاجات المتواصلة على قانون الجنسية «الجديد» في الهند؛ بل زادت اشتعالاً، لاسيّما بسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى؛ وذلك منذ شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2019؛ حيث اندلعت أعمال عنف ضد مسلمين محتجّين. وعلى الرغم من فرض الأحكام العرفية التي تمنع حق التجمّع والتظاهر، فإن حركة الاحتجاج شملت مدناً كبرى وصغرى وجامعات في أرجاء الهند الواسعة، تلك التي واجهتها السلطات بالقمع والاعتقالات، والإصرار على تمرير قانون الجنسية التمييزي الذي لقي معارضة شديدة من جانب منظمات وهيئات حقوقية وإنسانية هندية ودولية.
لقد اتبعت الحكومة طائفة من الإجراءات التمييزية ضد المسلمين؛ منها: تجريد إقليم كشمير الذي يتمتع بحكم ذاتي خاص من خصوصيته «التاريخية» التي كانت محط نزاع بينها وبين الباكستان، وتعديل قانون الجنسية الجديد، الذي يمنح الهندوس والسيخ والبوذيين والجانيين والبارسيين من أفغانستان وبنجلاديش وباكستان الذين جاؤوا إلى البلاد بصورة غير شرعية «حق الحصول على الجنسية الهندية»، باستثناء المسلمين، بمن فيهم مسلمو الروهينجا الذين فروا من الاضطهاد، والذين أصبحت قضيتهم شأناً دولياً وإنسانياً في العديد من المحافل الدولية.
وقد ولّدت تلك الإجراءات، أزمة شديدة، لاسيّما بتعريف «القومية الهندية» أو «الهندوية»، خصوصاً، تعارضها مع «الدستور الهندي» الذي يمتاز بطابع علماني واضح، يأخذ بمبادئ المواطنة والمساواة والشراكة، تلك التي عرفت بها الهند في تاريخها الحديث منذ الاستقلال في 15 أغسطس/آي عام 1947، لاسيّما إقرارها بالتنوّع والتعدّدية، ووضع الدولة مسافة واحدة من الأديان والقوميات والطوائف والسلالات واللغات، بحكم تنوّعها وتشعّبها وتشابكها وتفرّعها وخصوصياتها.
ولعلّ ذلك يعود إلى «الثقافة الهندوية» المتسامحة ذات الأصول البوذية والكونفوشيوسية، التي حاول المهاتما غاندي (قائد المقاومة) أن يعيد بثها في «الأمة الهندية» وفي الشعوب الهندية الموحّدة ذات المشارب والانحدارات المختلفة، منذ أن كان في جنوب إفريقيا، وبسببها دخل غاندي المعتقل المتقطع عدّة مرّات، سواء في جنوب إفريقيا؛ حيث عاش لسنوات غير قليلة أو بعد عودته إلى الهند في 9 يناير/كانون الثاني 1915. وبالمناسبة فكلمة «المهاتما» تعني «الروح العظيم في رداء الشحّاذين» وهو ما أطلقه عليه الشاعر الكبير طاغور، في حين أطلق غاندي عليه لقب «الحارس العظيم»، أي النافخ في البوق على أسوار الحصن المفتوح.
وفي كل الأحوال كانت «الهندوية» تشكّل مرشداً له في العمل، ممزوجاً بالنزعة الإنسانية المسالمة واللّاعنفية، وكانت تجربته الأولى في جنوب إفريقيا؛ حيث ناضل في سبيل حق الهنود في الإقامة والزواج في إطار مقاومة سلمية ولا عنفية، وذات بُعد مدني حضاري، وقد نقلها لاحقاً إلى الهند؛ بعد قراره الاستقرار فيها.
ويرى غاندي في السياسة واجباً أخلاقياً ودينياً روحياً، والسياسة عنده؛ تعني الحق وهو الأول والأخير، وهو يريده حقاً كاملاً غير منقوص؛ لذلك تمكّن من نيل ثقة الهنود، وأصبح بالتدرّج قائدهم الفعلي الأول.
وبسبب روحه الإنسانية وتسامحه وإيمانه بالشراكة الحقيقية؛ أصبح غاندي رمزاً هندوياً للبوذيين والمسلمين والمسيحيين ولجميع الهنود، خصوصاً بعد وفاة زعيم المؤتمر الوطني الهندي تيلاك، داعياً لمقاومة الإنجليز، وعدم التعاون معهم، وقد أظهر براعة حقيقية في تنظيمه وقيادته لإضراب الملح الشهير في عام 1930الذي كان إعلاناً سلبياً بعدم التعامل مع المحتل، وإجباره على الانصياع لمطالب الشعب الهندي في الاستقلال، وإجلاء جيوشه منه لاحقاً؛ لكن بريطانيا حين اضطرّت للرضوخ؛ زرعت مشكلة كشمير، وخصوصاً بعد تشجيع الجزء المسلم من الهند على الانفصال، وهكذا تشكّلت دولة الباكستان؛ لكن غاندي عوّل على التفاهم، وحاول السفر بنفسه؛ لملاقاة زعيم المسلمين محمد علي جناح إلّا أن متطرفاً هندوسياً عاجله بثلاث رصاصات أردته قتيلاً.
ومن المفارقات أن الروح الهندوية «اللّاعنفية» التي تغلّبت على أعظم إمبراطورية في العالم، ذهب رسولها؛ بسبب جهل وتعصّب، لتنفجر مجازر بين الهندوس والمسلمين، راح ضحيتها خلال عام واحد نصف مليون إنسان.
هكذا بدا للبعض أن لحظة الانتصار هي ذاتها لحظة الانكسار (20 يناير/كانون الثاني/1948)؛ لكن تلك الروح المقاومة، الرومانسية والواقعية في آن، الحالمة والعملانية من جهة، ظلّت ترفرف على الهند الجديدة المتحرّرة التي يوجد فيها عشرات الأديان والمعتقدات الدينية والمئات من الطوائف واللغات، ونحو خمس سكان البلاد من المنبوذين، الذين تم استيعابهم في إطار تعاليم غاندي «الهندوية»؛ حيث ربحت الرهان على التنمية والتسامح والمحبة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"