ليبيا: طريق الحل السياسي

04:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

لا ينال الوضع المتوتر والدامي في ليبيا ما يستحقه من اهتمام، ولا يعود ذلك فقط إلى تأزم الأوضاع في دول أخرى كاليمن وسورية والعراق، والتي تجذب الاهتمام إليها، ولكن أيضاً إلى كون الوضع الداخلي الليبي على درجة كبيرة من التعقيد حيث تتكاثر الحروب البينية داخل الجسم الليبي وكذلك تكاثر الفاعلين السياسيين والاجتماعيين ومؤتمرات الحوار، وقد جرى تتويج ذلك ببروز تنظيم «داعش» الإرهابي كلاعب جديد على الساحة، وذلك مع سيطرته على مدينة سرت وسط البلاد( 450 كيلومتراً عن العاصمة طرابلس)، وتهديداته الدائمة بالتمدد.

سياسياً، فإن الحوارات المتنقلة والجارية برعاية الأمم المتحدة، تتم بين ممثلين لمجلس نواب، أحدهما: منحل ويتخذ من طبرق( 1500كم عن العاصمة في شرق البلاد) مقراً له وسبق للمحكمة الدستورية أن أقرت بشرعيته، والبرلمان الثاني: المؤتمر الوطني العام، والذي يتلقى دعماً من جهة عسكرية هي قوات فجر ليبيا الإسلامية، إضافة إلى بعض الشخصيات المستقلة وممثلين عن المجتمع المدني.
الحوارات حققت تقدماً في يوليو الماضي، وذلك عبر إعداد المبعوث الأممي برناردينو ليون ورقة تقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية مدتها عام واحد، مع تشكيل مجلس أعلى للدولة.
وبينما وقع ممثلو البرلمان المنحل على الورقة في الصخيرات في المغرب إلا أن المؤتمر الوطني العام رفض التوقيع عليها، مطالباً بضمانات بعدم عودة ممثلي النظام السابق وبضمانات أخرى تتعلق بتشكيل مجلس الدولة الأعلى، وتحديد صلاحيات نائبين لرئيس الحكومة، المبعوث الأممي ليون يبدي تفاؤله ويسعى لحمل الأطراف على توقيع اتفاق قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
يسترعي الانتباه أن بروز «داعش» على الأراضي الليبية وبالذات سيطرته على مدينة سرت وقرى في محيطها بعد السيطرة على مدينة درنة في فبراير الماضي (تمت استعادة الأخيرة فيما بعد) قد أسهم كما يبدو في تحسس الفرقاء بمدى خطورة الاستمرار في خلافاتهم.
وقد تعرض هذا التنظيم الإرهابي إلى حملات عسكرية من قوات محسوبة على الطرفين، علاوة على ما يتردد على نطاق واسع بأن أنصاراً للقذافي بعضهم من العسكريين قد وجدوا في بروز «داعش» ضالتهم فالتحقوا به.

وقد حفلت الأيام القليلة الماضية بأنباء فظائع ارتكبها هذا التنظيم البربري بما فيها إحراق مستشفى في المدينة بمن فيه من مرضى يوم الخميس الماضي إضافة إلى صلب 17 جثة.
ومن الملاحظ أن المناطق التي استولى عليها «داعش» كانت تحت سيطرة حكومة طرابلس التي لا يعترف بها المجتمع الدولي، مقابل الاعتراف بحكومة عبد الله الثني التي تتخذ من طبرق مقراً لها.
وواقع الحال أن ظهور «داعش» وتمدده يشكل سبباً أو دافعاً إضافياً من أجل التقدم على طريق الحل السياسي الذي ترعاه المنظمة الدولية، إذ إن الاستنكاف عن التقدم على طريق الحلول السلمية سوف يؤدي حتماً إلى استشراء وجود هذا التنظيم الذي سوف يسهل عليه اللعب على التناقضات القائمة، واستثمارها على نحو يضعف الأطراف الوطنية، ويشتت جهودها ويعمق الشكوك فيما بينها كما يحدث في سورية منذ أكثر من عام مضى.
والمشكلة الماثلة في ليبيا أن قوى الثورة قد انقسمت على نفسها قبل أن ترسي دعائم الدولة الجديدة، وأن ثقافة ازدراء وجود الدولة والقوانين التي أشاعها القذافي ظلت تفعل فعلها في المجتمع بعد انتصار الثورة عليه.

علاوة على تمسك كتائب ثورية بأسلحتها مما جعل منها مراكز قوى عسكرية، ثم محاولة بعض الأطراف السياسية اختطاف الثورة بدلاً من الاحتكام إلى الانتخابات والتوافقات الوطنية العامة.
وفي هذه الأجواء انبعثت الروح القبلية وتسلحت القبائل وجرى السعي للسيطرة على ثروة النفط، غير أن المخاطر الماثلة تملي التقدم على طريق الحلول، وتتطلب تنسيقاً مشتركاً بين دول الجوار وكل الأطراف الفاعلة من أجل حمل المتفاوضين الذين يتنقلون بين ليبيا والجزائر والمغرب وسويسرا على حزم أمرهم، والإقلاع عن محاولة انتزاع أكبر مكاسب ممكنة من الطرف الآخر، ذلك أن ليبيا هي التي تخسر في الأثناء، والليبيون هم الذين يخسرون من أمنهم ومن أرزاقهم، وفي النهاية فإن الشعب (لا المفاوضات الدائرة) هو الذي يحكم على نجاعة السياسيين وجدارتهم، عبر آليات الاختيار الديمقراطي التي تفرز الأصلح لكل مرحلة وكل موقع.

لقد استفاد تنظيم «داعش» من الفوضى السياسية والمسلحة التي ضربت أطنابها على مدى نحو أربع سنوات، فتسلل إلى هذا البلد واجتذب من اجتذب إليه من المتضررين من اندلاع الثورة الليبية.

واللافت في الأمر أن الطرف المتمسك بالسلاح والميليشيات (قوات فجر ليبيا) هو الذي تعرضت مناطقه في درنة وسرت إلى الاستباحة الوحشية من «داعش»، وهذا ما يجب أن يملي على هذا الطرف كما على بقية الأطراف التقدم على طريق الحلول، من أجل بناء الدولة وبناء جيش وطني محترف وغير مسيس.

لقد سبق أن استعاد الليبيون مدينة درنة في شرق البلاد من «داعش»، مما يشكل حافزاً لاستعادة مدينة سرت من أجل إعادتها إلى الدولة الليبية وليس إلى طرف بعينه، وصولاً إلى جعل المدن الليبية خالية من المسلحين والميليشيات على اختلافها.
لقد هدأت في الأسابيع الأخيرة المواجهات بين طرفي الأزمة الليبية على وقع المباحثات التفاوضية الجارية، وهذه إشارة حسنة تستحق استكمالها من أجل وقف الاحتكام إلى السلاح وتوجيهه إلى خوارج «داعش»، واللجوء إلى التنافس السياسي السلمي، من أجل تحقيق حلم الليبيين الذين حرموا منه لأربعة عقود وهو بناء دولة المؤسسات والقوانين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"