كيف تواجه دول الغرب مشكلاتها؟

02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

واحدٌ من عوامل استقرار الدول الحديثة، في بلدان الغرب، وتمتُع بناها المجتمعيّة بالمنعة والقدرة على احتواء أزماتها، أنّها لا تسلك في سياساتها مَسْلك تجاهُلِ مشكلاتها الداخليّة، ولا تميل إلى تأجيلها إنْ هي أدركت ما يُرتّبُه مفعولُها فيها من تبعاتٍ على انتظام أمور اجتماعها المدنيّ والسياسيّ، وإنّما هي تواجهُها بالشجاعة المناسِبة وبمسؤوليّةٍ عالية، من دون تهيّب، وغالباً من طريق إجراءات شفّافة يشارك الجميع في مناقشتها وإقرارها وإنفاذ أحكامها إنْ حَصَل بشأنها إجماعٌ أو- على الأقلّ - إن أُقِرّت في المؤسّسات الدستوريّة.
وأوّلُ ما تبديه النخبُ الحاكمة، في الدول تلك، وهي تفتح مشكلات مجتمعاتها للبحث والمعالجة، أنها تصارِح شعوبها ورأيَها العامّ في شأن المشكلات تلك، وتضع بين أيدي الجميع المعلومات الضروريّةَ الممكنة (ممّا لا يمسّ بالأمن القوميّ حيث تَجب السرّية أحياناً) التي تسمح لهيئات المجتمع كافة بالموارد الكافية لتكوين رأيٍ في هذه أو تلك من المشكلات، وتدعو الجميع - معارضةً ومجتمعاً مدنيّاً - إلى التّحزّم لمواجهتها، بحسبانها مشكلاتِ مجتمع ووطن لا مشكلات نخبة حاكمة فحسب. والسياسةُ التي من هذا النوع - وهي الغالبةُ على دول الغرب ۔ مَبْناها على ثقافة المسؤوليّة السياسيّة والأخلاقيّة التي تتحلّى بها نخبُ تلك البلدان، والتي لا تَقْوى هذه النخب على التحلّل من التزامها مخافةَ أن يتولّد من تحلّلها منها طعنٌ على شرعيّتها لدى الشعب والناخبين.
وقد يتولّى المرءَ منّا - نحن العرب وأبناء «العالم الثالث» عموماً - بُهْرٌ عند ملاحظة كيف تتصرّف نخبةٌ سياسيّة وصلتْ حديثاً إلى السلطة، من طرق الاقتراع، مع مشكلات داخليّة- أو خارجيّة - ورثتْها عن نخبةٍ سياسيّة أخرى سبقتها إلى الحكم. مَأْتى الانبهار من عزوف النخبة الجديدة عن التعامل مع المشكلات الموروثة بوصفها مشكلات فريقٍ سياسيّ بعينه -رحل عن السلطة- و بالتالي، مشكلات لا تعنيها هي. على العكس من ذلك، تتصرّف معها بما هي مشكلات عامّة تطال المجتمعَ والدولة، برمّتهما، بمعزلٍ عمّن قاد إليها بسياساته. وهي حين تفعل ذلك، فليس من باب عفّةٍ أخلاقيّة تمنعها من إدانته أو تحميله المسؤوليّة، كما قد نعتقد، بل لعلمها أنّ النخبة الحاكمة السابقة ليست وحدها مَن يتحمّل مسؤوليّة تلك السياسات التي أنجبت هذه المشكلات، بل يُقاسمُها المسؤوليّة في ذلك كثيرون: جمهورُها الانتخابيّ الذي أوصلَها إلى السلطة؛ الرأي العامّ الذي لم يعترض على سياساتها أو لم يذهب في اعتراضه إلى حدّ إسقاطها كسياسات؛ هي نفسُها حينما كانت معارضة ولم تنجح في كبحها بالوسائل الديمقراطيّة...إلخ. بهذه الطريقة من النظر إلى المشكلات الموروثة، لا تُعفي النخبةُ الحاكمةُ الجديدة نفسها من السقوط في الكيديّة السياسيّة تجاه خصومها، فقط، بل تُحَرِّر نفسَها من عبء الشعور بأنّها وحدها من سيكون عليه جَبْه تلك المشكلات، وتوفير معالجات سياسيّة لها، و بالتالي، التعرض للمساءَلة النيابيّة والشعبيّة، بمفردها، عن وجه الصواب والخطأ في تلك المعالجات.
ولقد ننبهر، أيضاً، حين نرى نخبةً سياسيّة تتصدّی، بشجاعة، لمشكلات مستعصية: مزمنة أو طارئة، وهي في الهزيع الأخير من وَلايتها السياسيّة، من دون أن تَتَهيّب أو تتقاعس، أو تفكّر في ترحيلها إلى وَلايةٍ جديدة - إن هي حظيت بالثقة الشعبيّة- أو إلى نخبة أخرى جديدة تُغرِقُها في أوحالها. يفعل ذلك بعضُ النخب، وهو يتهيّأ للمغادرة، مع علمه أنّه قد لا يقْوى على حلّ المعضلات المطروحة عليه، في ما تبقّى له من زمنٍ زهيد في الحكم، وأنّه قد يحصد بفشله في حلّها خسارةً انتخابيّة تُفقِدُه فرصة الاستمرار في السلطة. ما من شكّ في أنّه ليس كل النخب السياسيّة من هذا الضرب من الشجاعة والنزاهة بحيث يضع مستقبله الانتخابيّ في الميزان، لكنّ بعضاً من مثل هذه النخب موجود، قطعاً، في المجتمعات الغربيّة وحريصٌ، أشدّ الحرص، على إيثار المصلحة العامة على المصلحة الحزبيّة الخاصّة. ولكن ما من شكّ، في الوقت عينِه، أنّه لا يضحي بمصلحته، كلّيةً، حين يُؤْثِر عليها مصلحة المجتمع والأمّة، بقدر ما يستثمر في رصيد صورته وصدقيّته استثماراً طويل الأمد. إنّه ذلك النوع من النخب التي تختار براغماتيّة بعينها دون أخرى: براغماتيّة محصّنة بمنطلقات مبدئيّة عليا ونزيهة، لا البراغماتيّة الذرائعيّة (الانتهازيّة) والفهلويّة التي لسانُ حالها يقول: أنا ومن بعدي الطوفان؛ وما أكثرها في بلدان الغرب نفسِه.
أيّاً يكن موقفُ المرء من السياسات الغربيّة -الداخليّة والخارجيّة - فهو لا يسعُه غير إبداء الإعجاب بقدرتها على مواجهة مشكلات مجتمعاتها مواجهةً وطنيّة وجماعيّة فعّالة وناجعة. وهي ما أفلحت في تلك المواجهة إلا لأنّها كانت شديدة الصراحة والشفافيّة مع رأيها العامّ، وشديدة التعويل عليه في مشاركتها جَبْه المشكلات تلك بوصفها مشكلات أوطان وشعوب، لا مشكلات فريقٍ من دون آخر.
أمّا لماذا سلكت هذا المسلك، فلأنّ دول الغرب تتمتّع بنظام المؤسسات، وبثقافةٍ سياسيّة مؤسّسيّة تَلْحظ أدوار قوى المجتمع كافّة، وتقيم الاقتران الدستوريّ الماهويّ بين المسؤوليّة والمحاسبة والمساءلة. إنّه، بكلمة، نظام العقل، نظام الحداثة السياسيّة الذي يوفّر للمجتمع والأمّة الضمانات لمغالبة المشكلات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"