هل بدأ عصر الثورات الشعبية؟

05:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

لم ينته عام 2019 بعد لكن يمكن منذ اللحظة وسمه بعام الثورات الشعبية في العالم. فمن الخرطوم وكاراكاس والجزائر وبغداد وسانتياغو وهونج كونج وطهران وصولاً إلى بيروت تجتاح الانتفاضات الشعبية العالم منذ أشهر عديدة. في السودان انطلقت الشرارة بعد رفع سعر الخبز واستمرت الانتفاضة ثمانية شهور قبل أن يتمكن الشعب من تغيير النظام، والإتيان بنخبة سياسية وعسكرية جديدة، وفي الجزائر أطاحت الانتفاضة الرئيس المريض بوتفليقة الذي كان ينوي الترشح لولاية جديدة؛ لكنها مستمرة سعياً وراء تحقيق التحول الديمقراطي. في النصف الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انطلقت الشرارة في تشيلي؛ إثر رفع سعر بطاقة المترو في العاصمة، وفي الإكوادور أثر رفع سعر البنزين على غرار «السترات الصفراء» في فرنسا المستمرين بالتظاهر منذ عام كامل، وفي إيران كان أيضاً رفع سعر البنزين، وفي بيروت تفجرت الثورة الشعبية؛ إثر قرار الحكومة وضع ضريبة على مكالمات «الواتس أب».
في كل الحالات كانت شرارة الانتفاضة قراراً يطال كلفة الحياة اليومية، ولو أن هذه الكلفة زهيدة في الحقيقة؛ لكنها جاءت مثل القشة التي قصمت ظهر البعير. وفي كل الحالات حركت هذه القرارات غضباً شعبياً كامناً ضد تحالف النخب المالية والسياسية الفاسدة.
انتشرت العدوى من بلد إلى آخر كالنار في الهشيم، ولو أن الظروف الوطنية مختلفة من بلد إلى آخر. لكن يمكن للمراقب رصد نقاط مشتركة كثيرة. بالطبع أولى هذه النقاط نوعية المطالب السياسية والاقتصادية، وثانيها تقنيات الاحتجاج والتظاهر، وثالثها غياب ممثلين معلنين أو ناطقين رسميين باسم الانتفاضات يمكن التفاوض معهم أو ابتزازهم أو اعتقالهم، إنها تحركات عفوية عارمة. رابعها أنها حركات سلمية الطابع رغم محاولات القمع التي تتعرض لها. خامسها النزعات العميقة التي أخذت تتبلور مع استمرار الاحتجاجات التي اتخذت طابعاً أقوى بكثير من المعتاد حيال النخب المالية والسياسية في هذه الدول المتهمة بالفساد والتي أدارت ظهرها للأجيال الشابة التي فقدت الأمل بمستقبل أفضل. هذه الشعوب تكوّن لديها الشعور بالمهانة وبأنها إذا لم تضع حداً للطبقة السياسية الحاكمة، فإن الاستهانة بكرامتها سوف تتفاقم. إنها شعوب تريد التغيير (الشعب يريد إسقاط النظام) وتبحث عن أشكال أخرى من السلطة؛ بهدف فرض تحولات على نظام سياسي واقتصادي لا يعير أي اهتمام لغير مكاسبه المتأتية من الصفقات والفساد على حساب الشعوب.
عشية الانفجار في تشيلي صرّح الرئيس الملياردير سيباستيان بينيرا بأن بلاده هي واحة أمن واستقرار في أمريكا اللاتينية؛ وذلك قبل أن يأمر الجيش بالانتشار في شوارع العاصمة لاحتواء التظاهرات. في باريس سارعت الحكومة إلى إلغاء قرارها المتعلق برفع سعر الوقود، كذلك فعلت الحكومة اللبنانية عندما ألغت الضريبة المفروضة على «الواتس أب»، لكن دون طائل.
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي كما الفضائيات في مد الثورات الشعبية بزخم متواصل، كما ساهم القمع الذي تبين بأنه ليس فقط لا يخفف من زخم الحراك؛ بل فيما يحدث العكس تماماً؛ ذلك أن شباب الحراك لم يعد يملك ما يخسره وهم يعلمون بأن الفشل يعني عودة الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة.
في غير مكان حققت الانتفاضات جزءاً من مآربها؛ لكنها تستمر سعياً وراء التغيير المنشود. في لبنان على سبيل المثال، أعلن نقيب المحامين المستقل الذي فاز في انتخابات النقابة ضد تحالف أحزاب السلطة بأن الحرب الأهلية اللبنانية انتهت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبأن هذا اليوم هو عيد الاستقلال الحقيقي.
على الرغم من أن مستقبل الانتفاضات ونتائجها يبدو غامضاً فإننا نشهد تغير مرحلة في العالم، مرحلة تحتاج إلى منهجية جديدة لفهمها وتحليلها. عدوى الحراكات الشعبية على خلفية مطالبات متشابهة إلى حد بعيد، بين دول متباعدة ومختلفة، تبعث على الاعتقاد بأننا ربما أمام إرهاصات تحالف غير معلن بين شعوب مقهورة ضد تحالف نخب سياسية-مالية على مستوى العالم. لم يعد الانقسام بين يمين ويسار أو بين تقدمي ورجعي أو بين شمال وجنوب؛ بل ربما بين شعوب ونخب معولمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"