الإنفاق العام لتنشيط الاقتصاد

04:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

خفضت مؤسسات عدة توقعاتها لنمو الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على ضوء الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ولا ينتظر أن يزيد نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة العام المقبل على 4 في المائة في المتوسط، ان لم يكن أقل من ذلك . وعلى الرغم من أنها نسبة نمو عالية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، إلا أنها تعد تراجعاً عن معدلات النمو العالية للمنطقة في السنوات الاخيرة . قد يكون الاستثناء في المنطقة هو الاقتصاد القطري، الذي يتوقع نموه بنسبة 20 في المائة، ويعود ذلك أساساً إلى المشروعات الضخمة للغاز الطبيعي في الاقتصاد القطري الصغير نسبياً . ويعد ذلك مؤشراً واضحاً على أهمية الانفاق العام في تنشيط الاقتصاد وزيادة معدل النمو في الاقتصادات النامية في المنطقة .

فعلى الرغم من صعود القطاع الخاص في معظم اقتصادات المنطقة يظل الانفاق الحكومي العام المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي والعامل الرئيسي وراء نمو الناتج المحلي الإجمالي، كما ان جانباً كبيراً من القطاع الخاص، خصوصاً في دول الخليج والدول النفطية الأخرى في شمال إفريقيا، يعتمد في نشاطه على الانفاق الحكومي العام إذ يقوم نشاطه على المساهمة في مشروعات البنية الأساسية وغيرها من مشروعات القطاع العام .

وهناك اشارات إلى أن بعض دول المنطقة قد تتجه إلى خفض الانفاق العام لمواجهة التأثيرات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية، وتحديداً الدول المصدرة للنفط والغاز التي تخشى ان تواجه تراجعاً حاداً في عائداتها لفترة طويلة نتيجة استمرار انخفاض أسعار الطاقة . وعلى الرغم من منطقية ذلك التوجه من ناحية السياسة المالية البحتة للحفاظ على الميزانيات العامة من دون عجز كبير فإن المرحلة الحالية تتطلب أفكاراً مبتكرة تتجاوز التفكير المالي والاقتصادي التقليدي لتجنب الوقوع في براثن الركود الاقتصادي العالمي العميق طويل الأجل . ولا يعني ذلك التخلي تماما عن القواعد التقليدية التي يتم على أساسها وضع السياسات الاقتصادية والمالية، لكن محاولة ابتكار سبل جديدة لا تصل إلى حد المخاطرة بتجاوز الحدود وفي الوقت ذاته تبدع سياسات تساعد على الحفاظ على النشاط الاقتصادي قوياً، وربما حتى الاستفادة من الأزمة العالمية الحالية .

ومع ان أسعار النفط فقدت نحو الثلثين منذ يوليو/ تموز الماضي، بما اثر سلبا بالتأكيد على عائدات الدول النفطية، إلا أن حساب الميزان الجاري لدول الخليج لا يزال جيداً بفضل عوامل عدة منها وضع تقديرات الميزانيات على أساس سعر للنفط أقل بكثير عن سعر السوق وكذلك ادخار معظم الدول الخليجية لفوائض العائدات النفطية في السنوات الأخيرة . وربما يسهم ذلك في تسهيل الأمر على واضعي السياسات الاقتصادية والمالية لدول المنطقة في ابتكار إجراءات محفزة للاقتصاد من دون اخلال كبير بتوازنات الاقتصاد الكلي المالية . وإذا كانت السياسة الاقتصادية لدول الخليج مهتمة بمخاطر التضخم نتيجة زيادة الانفاق العام مع ان ذلك لم يكن رادعاً في السنوات الأخيرة التي زاد فيها الانفاق على الرغم من زيادة معدلات التضخم بشكل صاروخي فإن انخفاض الأسعار على الصعيد العالمي سيؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم في المنطقة بقدر كبير .

ومن أهم المجالات التي يجب الانتباه إلى أهمية عدم التردد في الاستثمار العام فيها قطاع الطاقة، المصدر الرئيسي للدخل لدول الخليج . ويشير التقرير السنوي لوكالة الطاقة الدولية الذي صدر أخيراً إلى أنه في حالة عدم حدوث نمو في الطلب العالمي على النفط عن المعدلات البطيئة الحالية على مدى العقدين المقبلين وهو أمر مستبعد الحدوث تماماً فإن العالم سيكون بحاجة إلى أكثر من 40 مليون برميل يومياً بحلول العام 2030 . ويحتاج تحقيق ذلك إلى استثمارات تتجاوز 26 تريليون دولار، نصفها تقريبا مطلوب في مجال الاستكشاف والتنقيب والإنتاج مع تراجع إنتاج الحقول الرئيسية الحالية في العالم .

وقد يكون مفيداً التفكير في ضرورة الاستثمار الآن، على الرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية العالمية وتراجع عائدات النفط، في مشروعات الطاقة في الدول المنتجة والمصدرة بما يحقق هدفاً مزدوجاً . الشق الأول من المستهدف هو الحفاظ على النشاط القوي في الاقتصاد ومن ثم التقليل من تراجع النمو الاقتصادي في فترة الركود العالمي التي قد تستمر حتى نهاية العام المقبل أو بداية العام الذي يليه . أما الشق الثاني فهو الاستثمار في زيادة إنتاج الطاقة في فترة انخفاض الأسعار، ما قد يعني أيضاً تقليل التكلفة او على الأقل عدم ارتفاعها بشكل كبير، لتصبح تلك المشروعات عاملة مع تحسن الاقتصاد العالمي وعودة الطلب على الطاقة إلى الارتفاع . وهكذا تعوض زيادة العائدات من تلك المشروعات التآكل الذي سببه الاستثمار فيها في مدخرات العائدات في الفترة الصعبة الحالية .

ومع أن هناك احتمالاً ان تظل أسعار النفط منخفضة لفترة، وقد تنخفض إلى مستويات أقل تقارب المستويات المتحفظة التي توضع الميزانيات على أساسها، إلا أن ذلك لن يدوم . وحتى على أسوأ تقديرات الركود الاقتصادي العالمي، فإن عودة التحسن لن تزيد على عامي 2010-2011 وعندها سيعاود الطلب على الطاقة النمو وتتحسن أسعار النفط والغاز .

ذلك مجرد مثال على الابتكار في السياسات الاقتصادة والمالية لدول المنطقة لتفادي الآثار السلبية لفترة الركود العالمي التي دخلناها، لكن بالطبع هناك مجال واسع للإبداع ولا شك أن هناك عقليات مميزة في المنطقة قادرة على اقتناص تلك الفرص .

* محلل اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"