بين مصطلحات اليمين واليسار

04:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

خلال الثورة الفرنسية ظهر مصطلحا اليمين واليسار واللذان تهيكلت حولهما الحياة والثقافة السياسيتين في فرنسا طوال قرن ونيف. واليوم يدور نقاش في صفوف الانتلجنتسيا حول صلاحيتهما في وجود خطوط انكسار جديدة ظهرت منذ أكثر من ثلاثة عقود حول رهانات أوروبية وبيئية وعدالة اجتماعية ومساواة وغيرها تحدث انقسامات أفقية في كل من معسكري «اليمين» و«اليسار».
يعود المصطلحان تاريخياً إلى صيف العام ١٧٨٩ عندما حدث انقسام حاد بين نواب الجمعية العامة الفرنسية الذين لم يقتنعوا بأن السلطة الملكية تقف حائلاً دون التعبير المباشر عن السيادة الشعبية، وبين أولئك الذين اعتبروا أن الشرعية الإلهية الممنوحة للملك تعيق الشرعية الديمقراطية. وقد صودف وقتها أن أصحاب السيادة الشعبية كانوا يجلسون إلى يسار رئيس الجمعية العامة، وأنصار السيادة الإلهية للملك إلى يمينه. ومع الوقت توسع استخدام هذين المصطلحين خارج البرلمان حيث وقف الملكيون في مواجهة الليبراليين ورثة الثورة.
في العام ١٨٤٩ خيضت الانتخابات التشريعية بين «الحمر» أي التقدميين اليساريين من جهة و«البيض» أي المحافظين اليمينيين من الجهة المقابلة. ومع الوقت طوال القرن التاسع عشر تمحورت الخريطة الحزبية الفرنسية حول هذين المعسكرين وكان الوسطيون يتأرجحون بين الاثنين.
في نهاية القرن المذكور تجدد الخلاف حول مكانة الكنيسة الكاثوليكية في الدولة وتحديداً تأثيرها في التربية والتعليم. وانتصر رهان العلمانية التربوية ليضع حداً لصراع طويل بين النظام القديم والثورة، هذا الانتصار تجلى في القانون الصادر في التاسع من ديسمبر/كانون الأول ١٩٠٥ الذي يفصل ما بين الكنيسة والدولة.
وبعد طبيعة النظام ثم مكانة الكنيسة في الدولة، جاءت المسألة الاجتماعية والاقتصادية ما بين الحربين العالميتين لتفصل ما بين اليمين واليسار، ومنها نجمت الاختلافات حول السياسات العامة، فاليسار فضل تدخل الدولة لتصحيح التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية، في حين أن اليمين اعتبرها طبيعية وناجمة عن ميكانيزمات السوق.
لقد بقيت المصطلحات لكن الرهانات التي كانت تحملها تغيرت كثيراً، فالانقسام بقي في صلب الحياة السياسية والاجتماعية من دون أن يهيمن عليها، وهو نسبي وليس مطلقاً ويتمفصل حول مستويات ثلاثة انتخابية وإيديولوجية وحزبية.
في تسعينات القرن المنصرم برز مفهوم «الطريق الجديد» أو الثالث، ما بين اليمين واليسار،على يد أنطوني إيدن والذي أيده الزعيمان البريطاني توني بلير والألماني جيرهارد شرودر الآتيان من صفوف اليسار، لكن اليسار الفرنسي لم يتحمس له. هذا الأخير وصل إلى السلطة في العام ١٩٨١، بعد ثلاثة وعشرين عاماً من المعارضة، وشكل حكومة بالتحالف مع الحزب الشيوعي. لكن المفارقة أنه بعد عامين من وجوده في الاليزيه تبنى الرئيس ميتران اقتصاد السوق الذي طالما حاربه وانتقده. وخلال ولايتيه الرئاسيتين اللتين طغت عليهما السياسات الليبرالية، انمحت الحدود عملياً بين اليسار واليمين وأضحى المصطلحان أقرب إلى التعبير عن تنافس سياسي وانتخابي منه إلى انقسام إيديولوجي.
بالطبع ساهم سقوط جدار برلين وانخراط المزيد من الدول في اقتصاد السوق في إمحاء الحدود بين اليمين واليسار وفي ظهور أحزاب تعتبرهما معسكراً واحداً بتسميتين. بروز «الجبهة الوطنية» المتطرفة التي لا تجد فرقاً بين المعسكرين، خلط أوراق الحياة السياسية لا سيما عندما تشكلت «جبهة جمهورية» يمينية وأخرى يسارية وصار الكل يعتبر نفسه «جمهورياً». هنا بدأ الانقسام بين «مجتمع منفتح» يضم اليمينيين واليساريين التقليديين وآخر «منغلق» يضم المتطرفين. في الوقت نفسه حدث شرخ سياسي،على خلفية ولادة الاتحاد الأوروبي، اجتاز كل من المعسكرين اليميني واليساري. فقد برهنت الاستفتاءات الأوروبية بدءاً من معاهدة ماستريخت في العام ١٩٩٢ وغيرها طوال التسعينات، على أن الموقف من الاندماج الأوروبي يقسم كل الأحزاب في أوروبا بشكل أفقي وليس عمودياً. فقط الأحزاب المتطرفة بقيت متحدة ضد هذا الاندماج، وما تزال. ثم برزت المسألة البيئية وبعدها موضوع النزوح والهجرة وقبله الإرهاب وفقدان الأمن الخ. لتختلط الأوراق وتتغير الرهانات.
الإعصار الانتخابي في ربيع العام ٢٠١٧، يؤيد هذا التحليل، فللمرة الأولى تحت الجمهورية الخامسة يُهزَم مرشحو اليمين واليسار في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها مرشحان يرفضان تعبير يمين ويسار. ايمانويل ماكرون أراد حشد «التقدميين» في مواجهة «الرجعيين» ومارين لوبان حملت لواء «الوطنيين» ضد «العولميين». ومنذ ذلك الوقت يرعى هذا الخصمان هذين التعبيرين الجديدين. بعد انتخابه عين ماكرون رئيساً للحكومة جاء من صفوف اليمين الديجولي ووزراء ينتمون إلى اليمين واليسار على حد سواء، وهما مصطلحان يرفضهما معتبراً أن الزمن تخطاهما.
ويبدو أن الفرنسيين يوافقونه الرأي، إذ بيّن استطلاع للرأي أجراه معهد«ايبسوس» في يونيو/حزيران ٢٠١٧ أن ٧١٪ منهم يعتبرون أن «مفاهيم اليمين واليسار تخطاها الزمن». بعده بستة أشهر كشف استطلاع آخر أن٦٠٪ من الفرنسيين يؤكدون بأن الانقسام يسار/يمين، لم يعد يلائم الحياة السياسية (في مقابل ٢١٪ ضد و١٩٪ لا رأي لهم). وهناك أغلبية واسعة (٧٥٪) تحبذ أن يتحد اليمين واليسار من أجل اتخاذ قرارات أفضل لفرنسا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"