أيام فوق هضبة الحبشة

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
ساقتني الظروف في مهمة عمل للمشاركة في المؤتمر البرلماني الدولي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث أمضيت عدة أيام والأمطار الغزيرة تتساقط وصوت الرعد يدوي فوق مدينة ترتفع ألفين وسبعمائة متر فوق سطح البحر، حيث تقل نسبة الأوكسجين في الجو ويشعر القادم الجديد بالإرهاق الشديد مع صداع مستمر يزول تدريجياً مع مرور الوقت وبعد التعود على الوضع البيئي هناك.

وقصتي مع إثيوبيا طويلة فقد زرتها أول مرة حاملاً الحقيبة الدبلوماسية عام 1970 في ظل حكم الإمبراطور هيلاسلاسي سليل البيت الأمهري الحاكم الذي كان يستقبل زواره وأسد ضخم يلازمه أثناء اللقاء، فهو في ضمير شعبه بطل الاستقلال الذي لا تخلو مكانته من مسحة أرثوذكسية، فهو النجاشي الحاكم الذي شارك مع الرئيس جمال عبدالناصر في وضع حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة في عصر البابا الزاهد كيرلس السادس، وقد تواترت زيارتي لذلك البلد القديم لعدة مرات تحت الحكم العسكري بقيادة ميريام مانجستو حتى جاءت زيارتي الأخيرة لأشهد التغييرات التي طرأت على ذلك البلد الإفريقي العريق التي يبدو بعضها إيجابياً وبعضها الآخر سلبياً، ولكنها لا تخلو من متناقضات وتحديات ومشكلات، وإذا كان لي أن أتعرض للعلاقات بين مصر وإثيوبيا بكل ما فيها من رواسب تاريخية وقرب جغرافي وعلاقات سياسية، فإنني أتطرق إلى هذا الأمر من خلال النقاط التالية:

* أولاً: عندما نتحدث عن دول الجوار العربي فإن الكل يكتب عن إيران وتركيا بينما تبدو منطقة القرن الإفريقي ثانوية، وأنا أراها شديدة الأهمية خصوصا عندما نشير إلى الدولة التي تضم أهم قوميات شرق إفريقيا وأعني بها إثيوبيا، فالأحباش جزء مهم من تاريخ الأعراق البشرية والديانات الإبراهيمية في المنطقة كلها، فإذا كنا ساميين فهم حاميون حيث يلتقي أصلنا المشترك عند نبي الله نوح عليه السلام، كما أن اليهودية والمسيحية والإسلام قد عرفت طريقها إلى سكان الهضبة وأطرافها فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من التراث الروحي لديهم، فالهجرة الإسلامية الأولى كانت إلى الحبشة قبل أن تكون من مكة إلى المدينة المنورة، لذلك فإن الثقل الحضاري والثقافي لتلك البقعة من شرق إفريقيا هي شريحة مهمة في تاريخ العالم القديم، ولا يمكن تجاهل وجودها المؤثر في تراث الإنسانية، من هنا كان طبيعياً أن تبدو إثيوبيا دولة تعددية واضحة تمتزج فيها دماء العرب بالأفارقة وتختلط فوق أرضها مجموعة متداخلة من القيم والتقاليد، وإذا كانت القومية الأمهرية قد سادت هناك فإن ذلك لا ينفي وجود القوميات الأخرى إلى جوارها وتأثيرها الذي لا ينكر إلى جانبها، ولقد جسد ذلك كله إمبراطورها الراحل هيلاسلاسي بكل سطوته وقسوته ومكانته.

* ثانياً: إن الإثيوبي حذر بطبيعته، متحفظ بفطرته، تحكمه عقدة الشك تجاه الأجنبي بل إنني أظن أن نظرتهم لمصر لا تخلو من أسباب للقلق الدفين والريبة المستترة، وذلك ميراث قديم ينطلق من الجوار الحضاري والاشتباك التاريخي والحوار الإنساني، فالإثيوبيون لديهم مشاعر متداخلة، فمصر أمامهم بلد عريق وكبير تصب فيه مياه النيل الذي تأتي 85% من مياهه عبر الأمطار التي تهطل على الهضبة ولديهم أيضا إحساس بأن مصر بلد متقدم يحتاجون إلى دوره التنموي الذي يعوضهم الشعور الطارئ بالظلم تجاه القدرة على استغلال واستخدام المياه بين دول النهر سواء في الشرب أو الري أو توليد الكهرباء.

* ثالثاً: لقد استجاب الإثيوبيون في أعماقهم لمن همسوا في آذانهم وآذان غيرهم من دول حوض النهر قائلا: إن القرن العشرين كان هو قرن البترول بعوائده الضخمة واستثماراته المتراكمة، وجاء القرن الحادي والعشرون لكي يكون قرن الصراع على المياه، فمن حقكم يا من يبدأ مجرى النهر من بلادكم أن تتحكموا في تلك الثروة العظيمة، فإذا كان العرب قد أفادوا من عصر الطاقة فإن من حق الأفارقة أن يفيدوا من عصر الصراع على المياه، فإذا كانوا شركاء في حوض النهر فإن على الأكثر تقدماً أن يمد يده لغيره دون حساسية أو مراوغة فتلك هي فلسفة الشعوب القديمة والمجتمعات المتقاربة.

* رابعاً: لقد اتخذت الحكومة المصرية موقفاً معتدلاً من التدخل الإثيوبي في الصومال وإن كانت قد طالبت بجلاء قواتها عن ذلك القطر العربي المسلم الشقيق فور انتهاء مهمتها ولا شك أن الإثيوبيين لا ينسون أيضاً المواقف المصرية الداعمة للصومال في العقود الأخيرة سواء أثناء حرب أوجادين أو بعدها.

.. هذه ملاحظات اربع أردت منها أن أقول إن أهمية إثيوبيا بالنسبة للعرب عموماً ولمصر خصوصاً لا تقف عند حدود مياه النيل ولا تمتد فقط إلى التاريخ الكنسي المشترك ولا إلى الأغلبية النسبية من المسلمين بين السكان، ولكنها تعود أساساً إلى الأهمية الاستراتيجية لذلك القطر الشقيق الذي سعت إليه إسرائيل بعد سنوات قليلة من إعلان قيام دولتها واستقبلت منه بعد ذلك يهود الفلاشا، إن لذلك القطر الإفريقي الكبير أهمية صنعتها الجغرافيا وأضاف إليها التاريخ وعززتها علاقات بشرية ضاربة بجذورها في الماضي السحيق، لذلك فإنني أقول لكل من يعنيهم الأمر إن بلاد الأحباش تحتاج إلى الدعم التنموي والاهتمام السياسي والاقتراب الثقافي، خصوصاً أننا مستهدفون من اتجاهات متعددة ومعرضون لضغوط من قوى مختلفة، وقد آن الأوان لكي نقيم توازناً بين سياستنا العربية والتزاماتنا الإفريقية.. ونحن نتطلع إلى تحقيق ذلك قبل فوات الأوان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"