أمريكا.. القوة المتعددة الوجوه

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

كثيراً ما يشعر المتابعون للشأن الأمريكي بالحيرة عندما يحاولون وصف مدارات السياسية الأمريكية وتجليات قوتها المتعددة الأشكال، فعادة ما يوظِّف هذا البلد/ القارة، الوجوه «الحربائية» لقوته وعناصر هويته الفسيفسائية، من أجل الترويج لصور متناقضة يمكنها أن تتناغم مع تطلعات الشعوب والثقافات العالمية ذات الأصول المختلفة، وفق صيغ تُسهم في دغدغة عواطف وفي استثارة أحلام الشباب المنتمي إلى جنسيات وأعراق متنوعة، من الزنوج والآسيويين وصولاً إلى الأوروبيين، ويمتزج لدى الأغلبية الساحقة من الناس، شعور متناقض نحو كل ما يتصل بهذه القوة العظمى، يجمع ما بين المحبة والكراهية؛ محبة لثقافتها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية، وكراهية لغطرستها وسلوكياتها المتعالية والمحتقرة لباقي الشعوب والثقافات.
ومن السمات الرئيسية التي تميّز القوة الأمريكية الضاربة، وجود تداخل غامض بين عناصر قوتها الناعمة والخشنة؛ نتيجة للطابع الهجومي الكاسح والمدمر لقوتها الناعمة التي عادة ما تتسبب في إحداث أضرار جسيمة على مستوى المكونات الثقافية و«الهوياتية» للشعوب الأخرى، بل إن جانباً من قوتها التكنولوجية الناعمة، تحوّل خلال السنوات القليلة الماضية إلى سلاح فتاك، يخدم بشكل لافت، أجنداتها السياسية، وصار أكثر خطورة من الأسلحة التقليدية المستخدمة في الحروب المعتمدة على القوة الخشنة.
لقد كان القرن الماضي في مجمله قرناً أمريكياً، بفضل التحالف الأنجلو أمريكي مع الشتات اليهودي، الذي نقل كل عناصر قوته المادية والفكرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فعندما يتحدث يوري سليزكين عما يسميه ب«القرن اليهودي» في كتابه الصادر سنة 2004، فإنه يشير في واقع الأمر إلى العالم الجديد، الذي سمح بعقد قران تاريخي بين النخب اليهودية والنخب المسيحية الإنجيلية الأمريكية، من أجل ضمان استمرار سيطرتهما المشتركة على العالم، اعتماداً على قوة المال والإعلام والتجارة والتقنية والثقافة والفنون، لاسيما السينما والموسيقى، المدعومة بقدرات عسكرية لجيش بات ينفق أكثر من 40 في المئة من حجم الميزانية العالمية المخصصة للدفاع في كل قارات العالم، خلال سنة 2018.
ويشير في السياق نفسه، الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه الموسوم ب«حضارة.. كيف أصبحنا أمريكيين» الصادر سنة 2017، إلى تنامي القوة الأمريكية التي سمحت لواشنطن ببسط نفوذها على كل الحضارات والثقافات المنافسة لها، ويتحدث بنوع من اليأس والمرارة عن تراجع الحضارة الأوروبية الحديثة، التي أفسحت المجال واسعاً أمام القيم الثقافية الأمريكية، لتسيطر بشكل شبه مطلق على باقي الثقافات الغربية العريقة، التي كان لها فضل تدشين عصر الحداثة والأنوار منذ أكثر من قرنين من الزمن.
ويتجلى إشعاع الحضارة الأمريكية بكل وضوح، مع تزايد مصادر القوة الأمريكية ذات الأبعاد العلمية والثقافية نتيجة الهيمنة شبه المطلقة، التي تمارسها شركات التقنية المرتبطة بالعالم الافتراضي على القارة الأوروبية؛ الأمر الذي أسهم في تحوّل الحضارة الغربية برمتها إلى حضارة أمريكية بامتياز. ويشبّه دوبريه هذا التحول التاريخي بما سبق أن حدث للحضارة اليونانية القديمة، من تراجع لصالح الهيمنة المطلقة للإمبراطورية الرومانية.
ويمكننا القول بناء على ما تقدم، إن القوة الأمريكية تسجّل حضورها الضاغط في مختلف المجالات، من الأكثر رقياً إلى الأكثر وضاعة؛ أي من الثقافة والتكنولوجيا الرقمية العالية الدقة، إلى موضة سراويل الجينز الرثة والمتسخة، ومن القيم الإنسانية كالحرية والأمن والبحث عن السعادة التي تم الإعلان عنها في وثيقة الاستقلال سنة 1776، إلى الجشع التجاري والسلوكيات البربرية والهمجية في فيتنام والعراق وأفغانستان.
وبالتالي، فإن المعضلة الكبرى بالنسبة للقوة الأمريكية كانت وما زالت تكمن في خلطها بين قيمها ومُثلها من جهة، وبين مصالحها من جهة أخرى؛ الأمر الذي يجعلها تمارس قوتها الناعمة بكثير من الانتهازية، وتخاطب كل مجتمع بناء على القيم التي يؤمن بها.
تتكلم عن الليبرالية مع الليبراليين، وعن النزعة القومية مع القوميين المتشددين، وعن الاستقلال والحرية مع الحركات الانفصالية، بل وتتحدث كما يقول باسكال جوشون مع الأغنياء عن الملكية الفردية، ومع الفقراء عن الحركية الاجتماعية، ولا تشعر بأدنى حرج عندما تعمل على فرض تصوّرها لقواعد الحوكمة الجيدة على حلفائها، اعتماداً على رؤيتها الخاصة التي تخدم مصلحتها ومصالح شركاتها المنتشرة في كل أصقاع الأرض.
لقد أسهمت السياسة الأمريكية في جعل العالم ينتقل في ظرف سنوات قليلة، من جورج بوش المتهوِّر الذي دفع بالقوة العسكرية إلى مستوياتها القصوى، إلى باراك أوباما الأسمر المسالم القادم من أدغال إفريقيا، الذي تنازل عن قسم كبير من صلاحياته الدستورية لوزرائه الأقوياء، وصولاً إلى ترامب المدمِّر للاتفاقيات والمواثيق الدولية، والعابث بقواعد التجارة، والناسف لأسس العلاقات الدولية.
ويجسد هذا الانتقال مقدار التحوّل والتداخل في أوجه القوة الأمريكية ذات الأشكال «الحربائية» التي تمارس عنفها المادي والمعنوي على القريب والبعيد، وعلى القوي والضعيف على حد سواء، لكن أمريكا الواثقة في نفسها والمزهوّة بقوتها، تظل تشعر بالرغم من كل ذلك، بضعف شديد تجاه اللوبي اليهودي المدعوم «بالحلف المقدس» الذي جرى تشكيله بين «إسرائيل» والإنجيليين المتطرفين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"