أمريكا المنقسمة والهيمنة

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاطف الغمري

في أمريكا، تحتكر النخبة مهمة إدارة السياسة وصناعة القرار. وهو ما يسمح به الدستور والنظام السياسي الداخلي. والنخبة تتربع على قمة التأثير الثقافي والإعلامي في المجتمع. وهي قلة ضئيلة مقارنة بعدد السكان. فهي التي تفكر، وتنظِّر، وتقرر، وتمارس النفوذ في عملية محكومة بقواعد متفق عليها، كما أنها تحظى بتأييد قوي من المؤسسات التي تقف خلفها، ممثلة في الإمبراطوريات الاقتصادية الكبرى، وصناعة وتجارة السلاح، وسندها الذي تمثله المؤسسة الصناعية العسكرية. 

 هذه النخبة موجودة على مستويين، في مراكز الفكر السياسي التي تعد جزءاً أساسياً من ينابيع التفكير والتنظير للقرار السياسي المطلوب ليكون داعماً لمصالح الدولة الأمريكية أولاً، والمستوى الثاني يتكّون من شغل خبراء هذه المراكز، المناصب الرئيسية في إدارة أي رئيس جديد، فهو يختار منهم من يتفقون مع توجهاته. وعندما تنتهي ولايته يعودون إلى مراكزهم السابقة، ويختار الرئيس الجديد فريقاً آخر من نفس المراكز، أو من غيرها. 

  وأذكر أثناء دراستي لموضوع صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية، في الكلية الأمريكية بالنمسا، أن أول محاضرة لنا كان عنوانها – كيف أن أمريكا مختلفة – وكانوا يشرحون لنا أننا لكي نفهم كل شيء يجري في أمريكا من السياسة، إلى ما تقدمه المطاعم من مأكولات، لا بد أن نستوعب أولاً لماذا هي مختلفة، وهذا شيء متصل ببدايات نشوء الدولة الأمريكية. ذلك أن الشخصية القومية للأمريكي، ضاربة بجذورها في تاريخ أمريكا، وتراث سكانها الأوائل، وعلاقاتهم، وصراعاتهم مع بعضهم بعضاً لإقامة الدولة، عن طريق فرض «القوي» سطوته على من هو أضعف منه. وكثير من أفكار هذه البدايات تؤخذ كتراث ومسلَّمات، تركها لهم المؤسسون الأوائل للدولة، والتي صارت تشكل الشخصية القومية للأمريكي. وحيث كانت القوة، وباستخدام السلاح، هي الفيصل في العلاقات، فالأقوى صار متغلغلاً في الثقافة المعاصرة، فهو الذي يزيد من قوة أمريكا، وليس الضعيف الذي ينتقص منها. 

 وإذا كان الرأي العام يؤيد الكثير من مواقف الهيمنة وفقاً للنزعة العسكرية، فإنه يكون متأثراً بحملات تخويفه من تهديدات خارجية لأمنه، وحياته، ومصالحه، عن طريق حملات معدة جيداً، تدفعه إلى تأييد الزيادات في التسلح والإنفاق العسكري. 

 وفي سنوات الحرب الباردة، كانت هذه الحملات قد أثمرت عن جعل المواطن يشعر بأن وجوده ذاته مهدد من الاتحاد السوفييتي. وهو ما دفعه لتأييد استراتيجيات الحرب الباردة. وحين تلقت أمريكا ضربة موجعة في أحداث 11 سبتمبر 2001، وجدتها تلك القوى فرصة ذهبية لشحن النزعة العسكرية، ولم يتوقف الأمر عند تصعيد المواجهة مع من يصنفون كأعداء، بل وصل الأمر إلى ابتداع مفهوم الحرب الاستباقية ضد عدو محتمل، حتى ولو لم يكن عدواً، بل يمكن أن تكون أمريكا تعتبره صديقاً. 

 هذا الفكر ظل متصلاً بمفهوم الهيمنة على العالم، والذي يلتف حوله العديد من المفكرين وخبراء السياسة الخارجية، وقيادات مؤسسات ضالعة في عملية صناعة السياسة الخارجية. وهو فكر لا يزال يتسلط على العقل الأمريكي حتى الآن. 

صحيح أن التغييرات الأخيرة في النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، وصعود دول في مناطق من العالم، إلى مكانة تملك فيها إمكانات المنافسة مع أمريكا، قد أدى إلى خلق تيارات أخرى داخل الولايات المتحدة، يتبنى أصحابها أفكاراً تدعو لمشاركة آخرين لأمريكا في قيادة النظام الدولي، وليس هيمنتها منفردة على العالم. 

 هذان التوجهان يدخلان بالفعل في حالة من التفاعل، الذي بدأت قطاعات من الرأي العام تنجذب إليه، وتتعاطف مع الذين لا يعتقدون بالهيمنة الأمريكية كفكر عقائدي، وأن العصر لا يسمح بما كان سائداً في عصور سابقة، لأن العالم لم يعد مثلما كان، وأمريكا نفسها تغيرت كثيراً. 

 حتى أن النخبة ذاتها المحتكِرة للعملية السياسية، لم تعد في نظر قطاعات ليست قليلة من الرأي العام محل ثقة، بعكس ما كانت تحظى به في الماضي من قبول ومصداقية. وسبب ذلك انحيازها للطبقة شديدة الثراء، وأيضاً لوجود ارتباطات لبعضها بدول خارجية، تضغط عليها لتتخذ مسارات معينة في السياسة الخارجية. فضلاً عن أن النخبة نفسها هي الآن بحالة انقسام داخلي في صفوفها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"