العالم الذي نعيش فيه

05:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

لم تمض 24 ساعة على إعلان الرئيس دونالد ترامب من جانب واحد إلغاء القمة المقررة في سنغافورة 12 يونيو(حزيران) مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، حتى خرج ليعلن للصحفيين في واشنطن «سنرى ما سيحدث، من الممكن حتى أن تعقد في الثاني عشر من /يونيو حزيران المقبل، فنحن نتحدث معهم حالياً وهم يرغبون في عقدها بشدة ونحن أيضاً» ! ترامب القادم من عالم رجال الأعمال إلى البيت الأبيض لا بد يدرك بخبرته الطويلة، أن الارتجال في إصدار قرارات على جانب من الأهمية يربك عمل الشركات، فما بالك بالدول، وخاصة إذا كانت الدولة المقصودة هي الدولة العظمى.
لعل ترامب في هذا يمثل جيلاً من السياسيين الجدد، ينزعون الانطباعات المترسخة عن عالم السياسة بوصفه عالم الخيارات المتماسكة، والقرارات المدروسة، والابتعاد عن الشخصنة، ومشاركة المؤسسات في صنع القرارات، جيلاً من ساسة جدد يعتبرون أن التغريد على «تويتر» لا يقل أهمية عن مخاطبة المؤسسة التشريعية، وأن السياسي يتعين عليه أن لا يتأخر في التعبير عن مشاعره أياً كانت، وتصحيح الأمر في وقت لاحق حين الاقتضاء.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفعل شيئاً مماثلاً، فهو يطلق تصريحات شبه يومية، من قبيل ما يتحدث به مع زائريه أو حتى مع نفسه. وهناك ساسة آخرون في عالمنا لا يتوقفون عن إصدار التصريحات مثل بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال، ووزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، ومسؤولين فلسطينيين مثل الرئيس محمود عباس الذي لا يكف عن الإدلاء بتصريحات في حال كان مريضاً أو معافى.
غير أن الأمر مع الرئيس ترامب يبدو أكثر تعقيداً. فقد سبق له الإعلان عن عزمه على سحب قواته من سوريا، ولم يلبث أن تراجع جزئياً عن هذه الخطوة. وبخصوص صفقته المسماة «صفقة القرن» فقد تسربت أكثر من صيغة وأكثر من موعد للإعلان عنها. وكما لو كان الأمر أشبه بمطبخ سياسي مفتوح، يرى فيه الجمهور مراحل صدور القرارات وتقلباتها، وعلى غرار المطاعم التي تسمح لروادها بمتابعة طهي المأكولات وتحضيرها أولاً بأول.
وقد حدث شيء شبيه بهذا في إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً عن مطالبة الكرملين بسحب «القوات الأجنبية» من سوريا. لكن مسؤولين روسيين لم يلبثوا أن صرحوا بأن هذه المسألة «في غاية التعقيد».
وبما يتعلق بموضوع المقال، فإن الرئيس ترامب أعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وبدا متفاجئاً من رد الفعل الأوروبي المتحفظ، علماً أن زعماء أوروبيين عديدين تواصلوا معه قبل صدور قراره المتعلق باتفاق سداسي وليس باتفاق ثنائي. والآن وفي ظروف اهتزاز العلاقات الدولية، فسوف يتم قطع طريق طويل من أجل التوصل إلى حل وسط، ينجم عنه موقف جماعي حول الطموحات النووية الإيرانية من جهة، وإزاء تدخلات طهران في المنطقة من جهة ثانية. وحيث رسم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سقفاً عالياً للسياسة المزمعة حيال طهران، وبما يقضي بالحاجة إلى التفاوض مع الأوروبيين حول فحوى تلك السياسة المقبولة من طرفهم مبدئياً لا حرفياً، والتي تنعكس على مصالحهم الاقتصادية.
والآن فإن العالم يحبس أنفاسه، إذ ليس معلوماً إذا كانت القمة الأمريكية- الكورية الشمالية ستنعقد أم لا في الموعد والمكان المحددين بعد نحو أسبوعين في سنغافورة. وما إذا كان الزعيم الكوري الشمالي مطمئناً إلى الوضع الداخلي في بلاده في أثناء غيابه القصير إلى القمة التاريخية.. ثم إذا ما كان الرئيس ترامب سوف يراعي تحفظات حلفائه العرب وكما تبدى ذلك في القمة العربية الأخيرة في الظهران، بخصوص صفقته الشرق أوسطية، أم أنه سيصغي فقط إلى سفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان صاحب الميول الاستيطانية الصريحة، الذي حذره من إغضاب تل أبيب «التي تمثل مدماكاً في المواجهة مع طهران».
يدرك المرء أن القرارات في واشنطن تحتاج إلى موافقة المؤسسات التشريعية والأمنية، كما أن هناك «دولة عميقة» في واشنطن تمارس نفوذها في صنع القرارات أو تقوم بتكييفها لدى تنفيذها، شأنها في ذلك شأن غالبية الدول، غير أن الرئيس ترامب ينجح في جعل قطاعات الرأي العام في بلاده وكذلك دول وشعوب العالم، محبوسة الأنفاس إزاء قراراته ذات المساس بالسلم والأمن الدوليين، ولكن لا بد من الاعتراف في الوقت ذاته بأن هذه هي أمريكا في طورها الجديد، وهذا هو العالم الذي نعيش فيه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"