رحيل عميد الدبلوماسيين العرب

03:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

بغياب الأمير سعود الفيصل عميد الدبلوماسيين العرب، فإن الدبلوماسية العربية خسرت، بالفعل، قامة كبيرة مشهوداً لها، على مدى أربعة عقود، بالتفاني في خدمة القضايا العربية في المحافل الدولية.
وعلى خلاف ما استقر في الأذهان، وما تنطق به الممارسات التي تصور العمل الدبلوماسي على أنه فن من فنون التحايل والبراعة في الكذب، فإن أداء الأمير الراحل اتسم بالحرص على المضمون الأخلاقي للنشاط الدبلوماسي وعلى الالتزام بالصدق، أو ما يعرف بالدبلوماسية المباشرة التي كادت تغيب عن عالمنا. ولهذا وجد خصومه وخصوم العرب صعوبة شديدة في مواجهته، نظراً لما اتسم به أداؤه من دقة ووضوح ومن ابتعاد عن أساليب المناورة واللف والدوران، وحتى عن البلاغة الزائفة التي تتلاعب بالوقائع والألفاظ، كحال كثيرين من العاملين في هذا المجال في الشرق والغرب.
أجيال من السعوديين والعرب عايشت الأمير سعود وهو يجول في عواصم العالم ويعتلي المنابر مدافعاً عن القضايا العربية، وهو أمر يستحق التنويه به، كتذكرة للأجيال الجديدة. ذلك أن غالبية نشاط الراحل لم تكن تتجه إلى تعظيم مصالح بلده، ووضعها في الاعتبار الأول، إذ كان يرى إلى هذه المصالح الوطنية في إطار المصالح العربية العليا، وليس بانفصال عنها، وهو ما جعل منه صوتاً عربياً مدوياً مفعماً بالجرأة والصدق، وكذلك بالإيجاز المفيد الذي يذهب بصاحبه إلى لب الموضوع المثار. وهو ما يجعل من خسارته خسارة للعرب لا للسعوديين فحسب.
وعلى النطاق العربي الإقليمي فقد كان الأمير حاضراً بقوة في كل لجنة جماعية في إطار الجامعة العربية، ساعياً إلى منحها الدينامية المطلوبة رغم التناقضات العربية والتعقيدات الإقليمية والتدخلات الدولية. وقد نجح الأمير، إضافة إلى نهوضه بأعباء العمل الرسمي ومقتضيات هذا العمل، نجح في أن يكون أخاً للشعوب العربية وممثلاً لها، ويذكر له ضمن سيرة حافلة وغنية أنه كان من الساهرين على إنجاح اتفاق الطائف عام 1989، الذي وضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية الطويلة. ولم يُعرف عن بلاده، رغم الوزن المعنوي والاقتصادي الكبيرين التي تتمتع به، التدخل في شؤون الآخرين، أو السعي لإنشاء أحزاب وميليشيات محلية بما يمس استقرار أي بلد.
وفي مخاطبته للقوى الكبرى باسم بلاده، فقد نجح الأمير في تظهير صورة القضايا العربية في مخاطبته الصريحة للإدارة الأمريكية سواء في نقد الدعم الأمريكي للاحتلال الصهيوني، ورفض واشنطن تبني مبادرة السلام العربية التي أطلقتها الرياض، أو تمكين واشنطن لطهران من التغلغل بالنفوذ في العراق وسواها. ومن طريف ما يُنسب إليه وصفه العلاقات السعودية - الأمريكية بأنها من قبيل الزواج الإسلامي الذي يتاح فيه الاحتفاظ بأكثر من زوجة مع العدل بينهن. والفتور الذي ما فتئ يسم العلاقات السعودية - الأمريكية يعود إلى المواقف الصلبة التي تمسك بها الأمير، وبتوجيهات ملكية كان الراحل يحسن صياغتها. كذلك كان حال الأمير الراحل في مخاطبته لموسكو، كما بدا في رده على رسالة الرئيس الروسي بوتين إلى القمة العربية الأخيرة. ومع ذلك، وحرصاً على التوازن في العلاقات الدولية لبلاده، فقد كان الأمير الراحل الذي يوصف عن حق بأنه مهندس الدبلوماسية السعودية شديد الحرص على الاحتفاظ بعلاقات ودية مع موسكو، وكذلك مع بكين، وسائر المراكز الدولية ذات النفوذ والتأثير في عالمنا.
أجل.. بخلاف دبلوماسية الأقنعة ودبلوماسية الأوجه المتعددة، فقد ظلت الدبلوماسية السعودية بقيادة الأمير الراحل، نموذجاً ساطعاً للوضوح والأمانة مع الآخرين، ومزيجاً فريداً من الاعتدال والصلابة، وكذلك مزيجاً خلاقاً من المحافظة والانفتاح، الأمر الذي أكسبه احترام الخصوم ومهابتهم له، في الوقت الذي أكسبه احترام ملايين العرب وهم يُعاينون نشاطه الجمّ (رغم رحلة المرض الطويلة التي رافقته) في الاستبسال بالدفاع عن قضايا العرب، وفي سعيه الدؤوب لتضامن عربي فعلي، لا مكان فيه للمناورات والألاعيب بين الأشقاء، والتدخلات الفظة في شؤون الآخرين، أو تقديم مصالح دول أجنبية على المصالح العربية.
رحم الله الكبير سعود الفيصل، وأمطر عليه شآبيب المغفرة والرضوان.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"