المشي على الضوء

23:10 مساء
قراءة دقيقتين

تمتلك اللغة الكثير من الجماليات التي تجعلها قادرة على أن تلامس الوجدان، وتعبر إلى من يتطلع إلى نص غير ساكن، أو جامد بفعل لغة بالية، أو مفردة مستهلكة، أو جملة معادة، وللخروج من هذه الدائرة الضيقة، لا بد من التحليق إلى سماوات بعيدة وأراض بكر، ولا بد للماء من أن يتحرك، ويغسل كل مساحة يمر بها، فجموده سيجعله غير قادر على مقاومة التلاشي، وفي الأدب، فإن الخيال يحل محل القائد المتصرف العارف أين يضع قوته الضاربة، وبالخيال تنشط المخيلة، وتخرج ما لديها من ذاكرة مختزلة، وإذا تطرقنا إلى الشعر كأحد أهم الفنون الإبداعية التي يتجلى فيها الخيال، ويبحر مع جماليات اللغة من استعارة وكناية ومحسنات بديعية وصورة، فإن كل هذه العناصر لا تحتشد في النص الأدبي في ظل وجود خيال فقير، وأفق ضيق.
خصوبة الخيال لا تأتي إلا من خلال الاستكشاف الدائم المدفوع بهمة عالية ونفس طموحة، ورؤية واسعة، وتأمل طويل، وفكر يحلّق خارج السرب يسعى لإعادة استكشاف الوجود، فتغذية الذاكرة بالجديد يجعلها حاضرة عند الحاجة، فتخرج ما لديها من نفائس المعاني، وكنوز جمعها الخيال من السفر خلف الغيم ومطاردة النجوم، والمشي على سجادة الضوء، والجري مع الشمس في دورانها، وتأتي البراعة من خلال تفعيل طاقات التخيل لتحريك كوامن اللغة، واختراق الحجب للوصول إلى ملكة الإبداع وربة المعنى، والابتعاد عن المطروق من المعاني والحقائق المجردة. 
وفي هذا السياق يقول مصطفى صادق الرافعي: «خففّ الله عن الإنسان فأودع فيه «قوة التخيّل» يستريح إليها من الحقائق، فإذا ضجرَ أهل الخيال من الخيال، لم يُصلحهم إلا الحب، فهو ناموس التطور للقوة المتخيّلة».
ومن ضمن النماذج الباهرة في الرواية العربية، تلك القدرة الجامحة التي كتب بها الطيب صالح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي رسم بها صورة رائقة للمبدع، فهو يمتلك القدرة على الكتابة بأسلوب مفتوح، فعشنا مع تفاصيلها، وتشبعنا بخيالها المبدع، والشعر العربي يبوح بكثير من جماليات اللغة التي كساها الخيال، فحين قال المتنبي:
فاستقبلت قمرَ السماءِ بوجهها
                             فأرتني القمرينِ في وقتٍ معا
فهو بذلك يعطي صورة حقيقية عن قدرة الشاعر على تجسيد المواقف، والتعبير عن أشياء كونية بشكل خيالي مكثف، وقد أبهر الدنيا أبو العلاء المعري حين جرب الخيال في مواطن اللغة، فكتب نثراً ملغزاً معجزاً، أما في الشعر فلم يزل نموذجاً في الخيال المبتكر حيث يقول:
ومن يعدم أخوه في غناه
                         فما أدى الحقيقة في الإخاء
ولا يتوقف معين الأدب عن هذه الخطرات، فهناك في سجل الأدب العربي ما يبوح بأسرار الخيال في كل موطن، مما تركه الشعراء والأدباء وأصحاب القصص البديع.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"