مات الحكيم بعيداً عن قبره

23:44 مساء
قراءة دقيقتين
ما أصابه من شلل جزئي هو المعادل الرمزي لما أصاب حركة التحرر العربية كلها خلال العقود الثلاثة الماضية، فالرجل منذ بواكيره أدرك أن المفاتيح التي جربت في القفل الفلسطيني كانت مغطاة بالصدأ، لهذا قرر مع زملاء له من مختلف أقطار العرب، وهو طالب في كلية الطب بالجامعة الأمريكية ببيروت، أن هناك مفتاحاً واحداً فقط هو المقاومة، وتنبه إلى أن تعريب فلسطين وأنسنتها، كي لا يساء الفهم إذا قلنا عولمتها، هو الشرط التاريخي لتلك المقاومة.وبالفعل، اتسعت فلسطين لتشمل تضاريس العرب، وقلوبهم، وتشكل أشواقهم القومية في عقود كانت بهية بقدر ما كانت مشوبة بالأوهام أيضاً، لأن الأحلام الكبرى قد تتحول إلى ما يشبه التعجيز وبالتالي تقود إلى إحباط لا فكاك منه، إلا بالتأقلم القسري لا الطوعي مع الأمر الواقع، ولا نحتاج إلى أن نسميه، لأن الحكيم، كما كان يسمى بين رفاقه، كان حالة من العصيان لا العقوق، على ثقافة أربعينية تحالف فيها السلاح الفاسد مع الضمائر الأشد فساداً، وكانت الامبريالية تضرب بما تبقى من خريفها كل من يتجاسر على تحويل السؤال إلى مساءلة، ويحرر مفهوم النكبة من البعد الطبيعي الكوارثي ليضعها في صلب التاريخ.تخلى د. حبش عن موقعه كأمين عام للجبهة الشعبية، لوريث سرعان ما برهن على الجدارة بالدم وهو أبوعلي مصطفى، الذي مزقت صواريخ الاحتلال الصهيوني مكتبه وجسده، لكنها فعلت ما فعله الخنزير البري بذلك الفتى الاسطوري عندما اندلع الخصب والربيع من جراحه.مات الحكيم بعيداً عن مسقط رأسه في اللد وبعيداً عن قبره أيضاً، وحين كان جسده مسجى في تابوت كانت أجساد فلسطينية أخرى ترشح دماً من التوابيت في غزة ونابلس وسائر تلك الجغرافيا الرسولية، التي شاء لها التاريخ أن تتحول إلى مطهر.لقد قرأ جورج حبش عناوين كتب ومقالات، منها ما يودع العروبة بأسى ومناديل مبللة بالدمع، ومنها ما يكسر جرة فخار وراءها.. وكان يبتسم دامع العينين، لأن هؤلاء الذين تحولوا إلى أرامل ليسوا الناطقين التاريخيين باسم العرب، من ولد منهم ومات ومن سيولد هذه الليلة ليموت أيضاً، لكن على طريقته ودفاعاً عن حق الورثة في الحياة.اذكر أن ساعة اليد التي كان يضبط جورج حبش مواعيد عمله على عقاربها فارقت معصمه في ساحة باب المعظم في بغداد، عندما هزّ قبضته ضد كامب ديفيد وضد تلك الزيارة التي لا نعرف حتى الآن من الذي سماها زيارة.وأذكر أيضاً أن ساعة غسان كنفاني افترق عقرباها إلى الأبد عندما تطايرت يده في بيروت.إن اللحظة التي يفارق فيها د. حبش الحياة أقسى من أي موت، فالأحلام الكبرى أصابها الكساح، وفلسطين التي كانت بسعة العالم كله، وليس أرض العرب فقط، حشرت في جراب صخري ضمن نطاقها الجغرافي، ما دام الشّعار الذي تحول إلى عنوان استقالة قومية هو: نقبل بما يقبل به الفلسطينيون.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"