المبدع ومعاناته

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
قدر المبدع الحقيقي أن يسخّر كل طاقاته من أجل أن يقدّم الدهشة ويرسم لوحة الجمال، وأن يبقى دائماً رفيق المعاناة والسعي الدؤوب لبلوغ القمم العالية، وكلما وصل بإبداعه إلى محطة جديدة استقبلها الناس بالحفاوة والتكريم والترحاب لا يتوقف أو يقتنع إلا بما سيأتي بعدها، فهو شغوف باكتشاف القادم الأجمل، ودخول مدن كثيرة يتلمس جمالها فيعرض إبداعه الشعري في صور مختلفة وألوان زاهية ولوحات آسرة، لذلك عدم صعود اسمه في مسابقة ما، أو الاعتراف بتجربته لا يثنيه عن مطاردة الجمال والبحث عن الأراضي البكر، لكنه يظل يرنو إلى أن يحتفي أحد بتجربته، كون الاهتمام بإبداعه مقياس حقيقي لمسيرته، فهناك شعراء عظماء لم يجدوا من مجتمعاتهم إلاّ الجحود والنكران، لكن المعاناة جعلت عزيمتهم تقوى ومن ثمّ زاد إصرارهم على أن يبدعوا أكثر، لذلك قدموا نتاجاً صهرته المعاناة والتجربة، فخُلّدت أعمالهم وتناقلتها الأجيال وحُفِرت أسماؤهم في الذاكرة رغم عدم حصولهم على جائزة عالمية أو تقدير ما.
وعلى ذكر الجوائز العالمية التي يلهث خلفها الكثير من الأدباء وتحظى باهتمام إعلامي ومتابعة كبيرة، فهي في الغالب لصاحب فكرة الجائزة وحده، فاسمه هو الذي سيتردد ما بقيت هذه الجائزة ويخلد ذكره مع الزمن، وتنسى في الغالب معظم الأسماء التي حصلت عليها، وهناك العديد من الجوائز لا يكون الإبداع الحقيقي هو المقياس لها، فهناك ما هو أهم من الإبداع من وجهة نظر بعض القائمين على هذه الجوائز، بحيث تكون سيرة المبدع الحائز هذه الجائزة أو تلك مكملاً للوحة فقط، ولذلك فإني أعتقد أن على المبدع الحقيقي الذي يسعى إلى الخلود في ذاكرة الناس، ولديه إيمان عميق بأهمية ما يكتب من أجل الإنسانية والمعرفة ألاّ يتوقف عند مثل هذه المحطات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كما أن الأمة العربية بما تمتلكه من مقومات وإمكانات لديها القدرة على إيجاد جوائز عربية كثيرة ذات قيمة أدبية كبيرة، ولذلك أتمنى أن يتم العمل على إيجاد وسيلة مناسبة لتكريم المبدع العربي، وتوضع لهذه العملية آلية سليمة واضحة، ويعمل على تقييمها من لديهم الأمانة والمقدرة، وبذلك فلن يحتاج المبدع إلى الجري واللهاث خلف جوائز ليس الإبداع هو هدفها الأول، فالقيمة الحقيقية للمبدع تمثل في تقدير مجتمعه وأمته لنتاجه وعطائه، ولا يتأتى له ذلك إلاّ إذا أحدث عمله الابداعي أثراً جميلاً في الناس، كما أنه لا يشعر بقيمة احتفاء غيره به وتقديرهم الكبير لعطائه إن لم يجد ذلك صدى في مجتمعه، فهو سيشعر حينها بأنه غريب، وأن شجر الشعر لا يحتفي بعصافير حلمه وتغاريد إبداعه، وتحليقه المستمر في سماوات بعيدة من أجل أن يصطاد نجمة أو يداعب غيمة أو يسرق حليب الشمس ليقدمه إلى المتلقي.
يظل المبدع في كل العصور يطمح إلى تقدير الناس له ومن ثم قراءته بالصورة التي تليق به، فنحن نعيش في زمن يجد فيه الكثير من المبدعين أنفسهم أمام تحديات كثيرة ويحملون في الوقت نفسه هموماً كبيرة في ظل التحديات التي تحيط بهم بحثاً عن نشر ديوان أو الوقوف على منصة يلتف حولها الجمهور، فالشاعر في ذاته يشعر بأنه طاقة وأن الشعر من المفترض يطير به إلى الفضاء الواسع، فمهما تقوقع داخل شرنقته يتمنى أن يكون مشهوراً وشعره متداول بين الناس ويحظى بالتقدير الحقيقي حتى تلتئم جروحه ويحاول الطيران مرة أخرى على بساط الشعر الذي يتسع للأحلام والطموحات.

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"