لا خسارة لبريطانيا

04:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

لم تنفك بريطانيا تشغل العالم. الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تفارقها عادت إلى الانكفاء على نفسها، والتدثر بالضباب وبمعطف من المراوغة، لكن هل هذه العودة خروج من التاريخ. ليس ذلك قدرها، رغم أن مأساتها أنها تردت في منحنى الهزيمة، وانسحبت من شرق السويس عندما كانت سبع دول أوروبية تؤسس السوق المشتركة. وحين أرادت أن تنضم أبعدها شارل ديغول الزعيم الذي قاد حرب بلاده ضد الألمان من بريطانيا ذاتها. كان ديغول عظيم الكبرياء، يحمل لبريطانيا إرث عصور من الحروب، ولم يزل يتذكر «واترلو» التي هُزم فيها نابليون بونابرت أحد أعظم القادة في فرنسا، وفي أوروبا كلها. ثم لم يبارح ذهنه الصراع الذي دار بين بلاده وبريطانيا من أجل السيطرة على مناطق النفوذ وطرق التجارة، وتلك المأساة التي لحقت بالأسطول الفرنسي في أبوقير بمصر. لكن ديغول ترك السلطة بعد ثورة الشباب 1968 إثر استفتاء أبدى فيه 54% من الفرنسيين تأييدهم لسياساته، اعتبرها علامة رفض مادام لم يمنح أغلبية كاسحة. بعد ذلك ترك الدنيا في 1970 فاتحاً طريقاً سالكاً لبريطانيا نحو بروكسل.
لم تزل بريطانيا سيدة في هذا العالم، ولم يزل شرهها على الدنيا في أعلى ذروته، و الإنجليز من هنا ما انفكوا يحكمون العالم، أو يديرونه من وراء حجاب البيت الأبيض، وحلف الناتو، ورغم أنهم قرروا بالأمس أن يديروا ظهورهم لأوروبا، فإنما ليستعيدوا كبرياء هزتها إدارة برلين وبيروقراطية بروكسل.

وكما هي عادة الإنجليز في التدبر، والحذر، وإتقان المناورات، فإنهم لم يجازفوا بالتوقيع على اتفاقية «شينغن» التي تجيز التنقل بين دول المجموعة، ولم يخاطروا بالتخلي عن عملتهم والدخول في وحدة نقدية يديرها البنك المركزي الأوروبي.

لقد أصيبت أوروبا بالصداع، وفزع العالم في أسواق المال والنفط والمعادن الثمينة، ذلك أن خامس اقتصاد في العالم يفكك ارتباطاته بالقارة العجوز. وفي الجغرافيا، فإن هذه الدولة بعيدة عن أوروبا، وفي التاريخ فهي في داخلها وفي قلب العالم. وهي لم تكن موجودة بسجلها الاستعماري أو بفرض لغتها فوق كل اللغات الوطنية فقط، وإنما كذلك بالتأسيس للرأسمالية، صناعة وفكراً، منذ عائلة روتشيلد، وآدم سميث، وديفيد ريكاردو، حتى جون مالينا، وكينز صاحب نظرية التدخل التي انقذت الرأسمالية بعد الكساد الكبير، وقفزت بالنازية إلى الرايشستاغ واضعة هتلر على الرايخ الثالث.
بالتأكيد أن انسحاب بريطانيا من المجموعة الأوروبية سوف يظل مثار حديث ومناقشات لأمد طويل، لأن انعكاساته كبيرة عليها، وعلى أوروبا، وعلى العلاقات الدولية، بصورة خاصة العلاقة عبر الأطلسي. وهذا ما ستعمل بريطانيا في الحفاظ عليه من خلال عضويتها في حلف الناتو، وكشريك أساسي للقوة الأعظم. وحين تذهب التوقعات إلى تقديرات مبالغة في التشاؤم، والنصيب الأكبر من حول إسكوتلندا فإن الأمور لا تبدو على هذا النحو، بالرغم من أن رئيسة الوزراء، زعيمة حزب الاستقلال، تحدثت عن رغبة في استفتاء جديد حول البقاء ضمن المملكة المتحدة، أو الانفصال عنها. وقد استندت وحزبها إلى تصويت أغلبية الناخبين في بلادها في الاستمرار ضمن المجموعة الأوروبية. إن هذا على أي حال أقل جنوحاً في الترجيحات السوداوية، وأقله أن إيرلندا الشمالية ومقاطعة ويلز قد تطالبان بالانفصال، وأكبره أن تنفتح الشهية لدى أقليات في أوروبا، كما في إقليم الباسك بإسبانيا، أو أن دولاً أخرى قد تمضي في المنحى البريطاني وتخرج من الاتحاد.

أن الصدمة الناجمة عن القرار سوف تعزز الشعور بالحاجة إلى التوحد، فضلاً عن مخاوف ستتولد لدى المواطن الإسكوتلندي من عواقب كارثية للتمزق. فوق هذا فإن الإنجليز لا يخسرون دائماً، وحين أجبرتهم القوة الشعبية الغلابة على الخروج من المستعمرات، فقد كانت هذه لحظة في التاريخ تحايلوا عليها. وأعتقد أنهم سيجرون مفاوضات معقدة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي للحفاظ على مكاسب كانت مقررة بحقوق العضوية.

لن ننتظر طويلاً، فإن الإمبراطورية التي عادت للتدثر بالضباب سوف تستنشق هواءً منعشاً ومثيراً للحياة. وهذا الحدث الذي هز العالم سيتلاشى تأثيره حين تأخذ بريطانيا من أوروبا أكثر ما تريد من دون أن تعطي شيئاً، وقد تأخذ بالدبلوماسية ما كانت تنتزعه بالسلاح، ذلك أن الإنجليز لا يذهبون إلى الانتحار وهم في شاي الساعة الخامسة يستمتعون بالحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"