التقدم الحضاري والنزعة العنصرية

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الحديث عن الهوية الحضارية وقيمها الإنسانية أصبح حديث المنشغلين بالثقافة، بهدف رسم خرائط المجتمعات العالمية ومستقبلها، لتنجو من الذوبان والتيه، وتتحصّن بالتعددية والانفتاح العقلاني، وتتسلح بالتعاون بين البشر، من خلال الحضارات والاختيارات التي تعمق الأفكار وفق قيم الإنسانية، وتصوغ الفلسفة التي تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شيء.

 إنها النزعة التي تؤمن بإمكانية صنع التقدم الحضاري بعد طغيان أفكار عنصرية شوفينية كارهة للآخر في حقه في الوجود، وحقه في الحياة الآدمية فضلاً عن حقه السياسي والاقتصادي، إنها النزعة الانتقائية العنصرية الاستعلائية في النظر للآخر المختلف: ديناً وعرقاً ولوناً وجنساً وثقافةً.

 مرت البشرية بمرحلتين زمنيتين مختلفتين؛ الأولى، وهي الغالبة، تتعلق بالزمن الراكد، حيث إن الرتابة السياسية هي السائدة في حياة المجتمعات التي عرفت لوناً من الحياة السياسية بمعناها الواقعي. أما المرحلة الزمنية الثانية فهي مرحلة الزمن الاستثنائي، والذي يُغلّف بعدد من المسميات، تختلف اسماً لكنها تتفق مضموناً، وهي مرحلة غالباً ما تكون مفصلية على المستوى السياسي بل والتاريخي على حد سواء؛ فالاعتبار الواعي في تشكيل مصير الدول يتخذ أوجهاً متعددة، منها غياب الضمير الإنساني، وقصوره في إيقاف الممارسات الأيديولوجية المنتجة للموت والفناء والتخلف والتشرد والعنصرية، ما أوجد صعوداً ملموساً لتيار اليمين المتطرف. ويترافق مع هذا الصعود ظهور خطاب مناهض للمهاجرين، وجدل كبير حول الهوية القومية، وتثبيط واضح لما يسمى تعدد الثقافات وحرية العقيدة، وتقبل الآخر. وقد تبنّى بعض وسائل الإعلام، وعدد من المثقفين والسياسيين، هذا التوجه وإذكاءه مغلفاً بشعارات جوفاء تدغدغ مشاعر العامة والبسطاء تارة تحت دعاوى دينية، أو مجتمعية، وأخرى اقتصادية.

 وفي ظل هذه الظروف الملتبسة التي تصيب الرأي العام بنوع من التشتت، شهدت مكتبات العالم مؤخراً صدور كتاب دايفيد باتريك هوتون حول تطور علم النفس السياسي، والمقاربات النظرية ذات العلاقة بالنظريات القومية والصراع العرقي والعنصري. وهو منظر أيديولوجي، وفيه تأملات عميقة في الرأسمالية والنزعة الأنطولوجية، ويشير إلى أنه لا يمكن فهم جوهر العلاقة بين السلوك البراجماتي المتطرف عندما تكون المواقف السياسية والاجتماعية منفصلة عن الواقع، والتعلق بالمطلق الأقرب إلى الوهم أو المستحيل، فالكثير من دوافع التطرف السياسي والأيديولوجي مستمدة من مشاعر وهمية مرضية مصابة بالاستعلاء والتميز، أو انتماءات اجتماعية عنصرية تتغلب على المصالح الاقتصادية والاجتماعية العامة، فيكون التطرف الذي هو غطاء لمصالح فاسدة تضر ببنية المجتمع وبالقيم والدوافع الجميلة، وبجوهر العلاقة بين حرية الاعتقاد، وفهم جوهر الاعتقاد ذاته والجذر الذي ينبع منه داخل الكيان الإنساني.

 وهذا يخالف طبيعة الإنسان؛ فالإنسان العنصري أو الأصولي رجل ذو مشروع مستقبلي للهيمنة والنزعة الجنينية، أي بمثابة الموجود لأجل ذاته، وهي أعتى النزعات الشمولية الملفوفة برداء العنصرية والعرقية والقومية والنفعية الناجمة عن النزعة المادية، وما تنطوي عليه من تضييق لأفق وجوده الروحي وتغييب شعوره العميق بالواجب الأخلاقي، قيداً على حرية الضمير، فلا يعدو أن يكون مجرد ذرة في خضم العالم، وبأدوات العنف ومشاعر القسوة.

وقد كشفت الحوادث عبر تاريخ الإنسانية عن تاريخ مشترك للعنف ضد «السود» منذ عهد العبودية وحتى الاستعمار، مما وحد حركة الاحتجاج ضد إرث العصر الإمبراطوري ورموز العنصرية التي لا تزال باقية. وقد شكل مقتل فلويد في الولايات المتحدة، محفزاً جديداً لتصحيح التاريخ. وهذا ما رصده تقرير لصحيفة «الجارديان» البريطانية بربطه لأوجه الشبه بين مقتل فلويد في أمريكا، ومن قبله أداما تراوري في فرنسا، ومارك دوجان في المملكة المتحدة؛ فرغم اختلاف الظروف، تحولت حركة الحياة السود إلى حملة ضخمة ذات تأثير عالمي فتحت الباب أمام تغير اجتماعي كبير من أجل محاسبة التاريخ والعرق.

 العرقية أو العنصرية تتشكل وتتجدد إذا وجدت حاضناً اجتماعياً لها، أو لأسباب أخرى تتعلق بالبيئة والآثار الأساسية للتتابع الجيني، أي أن عامل البيئة لم ينجح بشكل قاطع في تغيير الجينات الأصلية للفرد، أو استبدال الخضوع الإنساني الجماعي أو الفردي لقوة الاختراق أو الاستيلاد إزاء طوري الطبيعة والتاريخ وتقلباتها واستقلال الأشخاص إزاء ضغوط وأشكال القسر التي يصنعها الإنسان، ذلك الاستقلال المزدوج والمتمثل في تأكيد الذات، وفق مسار يفرز روح التسامح في المدى الاجتماعي، بحيث يمنح السياسة جوهر القيمة الأخلاقية، وهي القوة الدافعة نحو البناء الحضاري، ورعاية القانون الأخلاقي لأفعال الخير والصلاح المرتبطة بالسنن الاجتماعية للوجود الإنساني، لتحقيق تلك الغاية الكلية البعيدة المدى، ليعم العدل في أرجاء الأرض من أجل بناء المجتمعات، وفق كل النظريات الخاصة بقداسة الإنسان وسلوكه، وبنشأة المجتمعات وأطوارها على مبدأ الأخوّة الإنسانية، أفراداً وجماعات وشعوباً كاملة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"