اللغة العربية.. فصيح وعامي

04:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

ليس عيباً أن نقتدي بالآخر المتقدم ولكن من العيب أن نتعايش مع التخلف وأن نقف في وجه التحدي الهادف إلى التطور والنماء

ليست اللغة العربية وحدها ذات المستويين الفصيح والعامي، بل اللغات كلها- من دون استثناء- تأخذ هذا المدى من التنوع. ومنذ القديم لم يتغير الحال، فكان المبدعون يكتبون بمستوى، والعامة يتحدثون بمستوى، وصار للمستوى الأول مخزون ثقافي موثق ومكتوب، في حين صار المستوى الثاني نوعاً من الثقافة الشفهية والمتداولة بين الناس.

ولهذا، وذاك، فقد استطاعت اللغة العربية أن تحقق بهذين المستويين تاريخاً ثقافياً خالداً، ومؤثراً، وما شعر المتنبي، وأمثاله من معاصرين، ومن تلاهم من الشعراء إلاَّ التعبير الصادق عن المستوى الأول الفصيح والمكتوب، واللافت أنه كان، ولا يزال يؤثر في وعينا، وإدراكنا، ويشكل الجزء الأعمق من ثقافتنا الراهنة، وليس ما يستجد من أساليب وأفكار سوى إضافة لذلك المخزون الأعمق. ولعله من هنا نشأت فكرة الأصالة والمعاصرة، وصار من حقنا أن نعتز بهذين التيارين الحديث، والقديم. ويمكن القول إنه لا قديم بلا حديث، ولا حديث بلا قديم، وإن هذين التيارين -كما سبق الوصف- لابد أن يتعانقا ويواصلا مسار الإبداع حتى لا يكون القديم محض اجترار، ولا يكون الحديث صاعداً من الفراغ.

ولدى الشعوب المتطورة ثقافياً يلاحظ القارئ هذا التماسك، وكيف أن الجديد يأخذ بيد القديم لكي يشكلا معاً هذا المنحى الثقافي الذي تعتز به الشعوب المتقدمة، وترى فيه تعبيراً عن تطورها، ونموها الإبداعي. وما أحوجنا نحن العرب، ونحن نسعى إلى مقاومة التخلف، أن نأخذ من تلك النماذج المتقدمة قدوة تجعلنا قادرين على التجاوز، وإثبات أن الحياة متجددة من خلال تجدد الثقافة، وتنوع مساراتها، ومن المستحيل أن تتطور أوضاعنا، ونخرج من دائرة التخلف من دون الاقتداء بمن سبقنا. وليس عيباً أن نقتدي بالآخر المتقدم، ولكن من العيب أن نتعايش مع التخلف، وأن نقف في وجه التحدي الهادف إلى التطور، والنماء.

نستطيع أن نقول إننا قد قطعنا شوطاً باهراً في هذا المجال، وإن علينا أن نواصل ما بدأناه بلا تردد، فالوقت ليس في مصلحتنا إذا لم نعبر به حالة الجمود. وما كان عليه حالنا قبل ثلاثين عاماً، يختلف كثيراً عما نحن عليه الآن، كأننا بذلك قد عرفنا الطريق الصحيح، وما علينا لا أن نواصل السير عليه، وأن نشق بأنفسنا، وقدرتنا على تجاوز الطريق المطلوب، وأن نتأكد من وجود مستويين لغويين في حياتنا، أحدهما فصيح، والآخر عامي، يساعد على النهوض بحياتنا الفكرية والعلمية ويجعل من المستوى الأول مصدراً للوعي والإدراك العلمي والفكري، ومن المستوى الثاني وسيلة للتعبير ونقل الأفكار المهمة إلى الحياة العادية.

وآمل أن تكون هذه الملاحظات - رغم صعوبتها- على قدرٍ من الوضوح والتأصيل، فلا قيمة لفكرة، أو معنى لا يكون لهما أثر في حياتنا. ويمكننا القول كذلك إن المستوى الثاني، وهو العامي، قد استطاع أن يستوعب الأفكار والرؤى الجديدة، وأن يساعد على الفهم الحديث والارتقاء بمستوى التعبير الشعبي إلى حيث يتمكن من عكس كل المعاني والأفكار الجديدة على الواقع.

وأتوقف قليلاً للحديث عن الأصالة والمعاصرة، وقد سبق لي فيما مضى أن شرحت هذا المصطلح، وأوضحت معناه العميق، وأنا هنا - أذكّر فقط - بما يقتضيه الحال من ضرورة التوافق بين الأصالة والمعاصرة في بناء الفهم الجديد والحديث. و لا مفر لنا، إن أردنا الحياة المتطورة ثقافياً وإبداعياً من أن نعمل جادين على الخروج من دوائر الجمود، والقفز على حالة التخلف، فقد تأخرنا كثيراً، ولا بد أن يكون تجاوزنا جادّاً، وسريعاً، واستجابتنا لهذا المطلب جادة، وسريعة أيضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"