في بعض دروس المرحلة السابقة

03:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

تُطلعنا تجارب ما دُعي بانتفاضات «الربيع العربي»، في مطالع هذا العقد، وبانتفاضتي شعبي السودان والجزائر، في خواتم العقد نفسه، على الكم الهائل من المشكلات والأزمات التي تعتمل في الداخل الاجتماعي والسياسي، والتي كانت في أساس الانفجارات تلك؛ مشكلات الاستبداد السياسي وخنق الحريات العامة؛ الفساد المالي والسياسي والإداري؛ إضافة إلى الفقر والتهميش الاجتماعي الناجمين عن فقدان العدالة وعن سوء توزيع الثروة؛ الفشل التنموي الذريع ونتائجه الاجتماعية الحادة ( تزايد الفوارق الفاحشة بين الطبقات الاجتماعية)؛ التحيف الفاضح في حقوق النساء والشباب؛ هشاشة بنى المواطنية وروابطها ممثلَة في انبعاث النعرات العصبويّة والأقوامية الانقسامية... إلخ. ولقد اجتمعت هذه المشكلات، كلاًّ أو بعضاً، لتهيِئ الأسباب العميقة للانفجارات الشعبية تلك، بمعزل عن أي عوامل أخرى استجدت عليها، وكان لها بالغ الأثر فيما حصل.
ولقد يخطئ من قد يذهب به الظن إلى أنه سيكون بمنأى عن مفاعيل ما حدث من جائحات، في هذه السنوات العجاف التي أكلت الأخضر واليابس، أو أنه سيكون بمنأى عن انتقال عدوى الاحتجاجات العفوية إلى داخله؛ ذلك أن الأسباب والعوامل التي ضربت كيانات مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والعراق والسودان والجزائر، لما تزل كامنة في كل بلد عربي، مع اختلافات وتفاوتات في نسب الكثافة؛ وهي لا تنتظر أكثر من مناسبة ما مناسبة. والمناسبة تلك قد تكون داخلية، أو قل من فعل عاملٍ داخلي (خارج السيطرة)، وقد تكون خارجية؛ من فعل عامل إقليمي أو دولي (متحفز أو متحين الفرصةَ للإيذاء). وعلى ذلك، ينبغي أن يؤخذ احتمالُ تفجر المشكلات الداخلية، في معظم البلاد العربية، مأخذ الجد لئلاّ تُفاجِئ التطوّرات الجارية مجتمعاتنا ودولَنا فتأخذها على حين غرة كما فاجأت سابقات منها. مثلما ينبغي ألا يركن أحد منا إلى توقعات الأجانب وآرائهم وطمأَناتهم، فيبني موقفه على هذا المقتضى؛ فلقد لدغنا - سابقاً- من جحر تلك الطمأنات، قبيل ما يسمى «الربيع العربي»، حين أغدقت المؤسسات الدولية مدائحها على «النموذج» التنموي في تونس زين العابدين بن علي، داعية بلداناً عربية أخرى إلى الاقتداء به لتحقيق التنمية والاستقرار، فكان بعدها ما كان من زلزال لما تتوقف ارتداداتُه في تونس حتّى يوم الناس هذا، ولم يعف صاحب «النموذج» المنَوه به من مصير صعب.
قد يقال إن ما حدث من كوارث، في امتداد «الربيع العربي» ونتائجه، ما كان ليحدث لولا أن الاحتجاجات المدنية أخرجت عن سياقها المطلبي السلمي، واختطفت من «قوى الإسلام الحزبي» ومن عصابات مسلحة مدعومة من خارج معاد يريد بالوطن العربي شراًّ. والاستدراك هذا صحيح إلى حد نسبي معين؛ إنه يقول نصف الحقيقة، ولا يقول الحقيقةَ كلها. نعم، هو يقول نصف الحقيقة؛ لأن الخراب الذي جرى كان من مفاعيل هندسة خارجية، ولأن المراد كان إحداث فوضى «خلاّقة»؛ لإعادة بناء «شرق أوسط جديد»؛ ولأن صفقة كبرى قضت بأن يكون الإسلاميون -«إخواناً» و«جهاداً»- مخلب قط في مشروع التفكيك. لكنه قول يسكت عن نصف الحقيقة الثاني. والنصف هذا من صنعنا نحن العرب؛ ممّا فعلناه بأنفسنا، مجتمعات ودولاً، وهيأنا به الشروط لمداخلات الأجانب في بلادنا وشؤوننا؛ إذ لولا الاستهتار بكرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم؛ ولولا الفساد الذي زكمت روائحه الأُنوف، والهدر العشوائي للموارد الوطنية، والانسداد السياسي الذي أقفل الآفاق أمام أي تطلع نحو الأحسن، والتبديد المنظم والمتعاقب للفرص نحو الخروج من أوحال التأخر...، لما أمكن أن يقع ما وقع، حتى وإن كانت النيات الأجنبية المبيتة لإيذائنا متحفزة وجاهزة. وإذا كانت المخططات الأجنبية قد أصابت حظاً من النجاح كبيراً في تفجير أوضاعنا، فلأننا فجرناها، نحن بأيدينا مرتين: مرة بسياساتنا الخرقاء التي أوصلت أوضاعنا إلى حالة التأزم الشامل، وأوجدت الأسباب للاحتجاجات العنيفة عليها، وبالتالي، للاختراق الأجنبي؛ ومرة ثانية؛ حيث قدمت المعارضات العربية والقوى الإسلامية والميليشيات المأجورة السخرة السياسية والعسكرية للأجنبي، فأدت -نيابة عنه - دورها في تخريب أوطانها باسم التغيير والحرية والديمقراطية أو باسم الإسلام ووجوب إنفاذ شريعته!
من البين، إذن، أنه ما من شيء يدعونا إلى الاطمئنان إلى وضعٍ ملتبس كالذي نحن فيه؛ إلى الركون، مثلاً، إلى الاعتقاد أن استقرارنا قد يتأمن من طريق السير فيما نحن فيه، اليوم، وما اعتَدنا عليه طويلاً من قبيل تجاهل المشكلات العميقة في اجتماعنا السياسي، أو إهمال أولوياتها والميل إلى ترحيلها أو تأجيلها إلى أزمنة قادمة؛ أو إلى الركون، مثلاً، إلى الاعتقاد في سلامةِ تشخيصنا للتحديات، الداخلية والخارجية، التي تمتحن أمن مجتمعاتنا ودولنا واستقرارها؛ أو من قبيل استسهال شأن بعض المطالَبات التي قد تبدو لنا غير ذات قدرة على ممارسة التهديد، لمجرد أن حملَتها قل وغير ذوي بأس وشدّة، متناسين بأنها (مطالَبات) لا تقوى وتعظم بقوة حملَتها الداخليين، وإنما هي تستفحل حين يلتقطها مَن يلتقطها من حوامل خارجية. وبكلمة، لا بديل لنا من يقظة الفكر وأهبة العزيمة؛ لكي نواجه مفاجآت ليست دائماً متوقعة (وإلاّ ما كانت مفاجآت)، ولكنها مما قد تحبل بها مرحلة جديدة انهارت فيها الحدود التقليدية بين الداخل والخارج، الوطني والكوني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"