معبر رفح رمز للوضع العربي

01:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحقيقة أن معبر رفح، قبل الاجتياح الإسرائيلي الأخير بسنوات، كان يبدو رمزًا للوضع العربي برمته، يختصر كثيراً من جوهره، ويعبّر حتى عن بعض تفاصيله الأساسية.والحقيقة أن بلدة رفح الصغيرة (وليس معبر رفح الشهير فقط) طالما كانت، ولا تزال تمثل رمزاً للعلاقة التاريخية بين مصر وفلسطين. فهذه البلدة الصغيرة لا تقع فقط في أقصى جنوب فلسطين التاريخية، وفي أقصى شمال مصر، بل هي مقسومة بين البلدين، بمعنى أنه يوجد بالفعل رفح الفلسطينية ورفح المصرية، لذلك، ومن قبل قيام إسرائيل عنوة واغتصاباً في العام ،1948 كانت الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تقع في مدينة رفح، وقد أدى ذلك بعد احتلال فلسطين، إلى تحول منطقة رفح بكاملها منطقة حدودية بين مصر وما أصبح يعرف باسم قطاع غزة.من حيث المبدأ، تسلمت السلطة الفلسطينية قطاع غزة، وبعض مناطق الضفة الغربية، تنفيذاً لاتفاقيات أوسلو في العقد الأخير من القرن المنصرم، ودخلت بعض هذه المناطق في إطار السيطرة السياسية والأمنية الكاملة للسلطة الفلسطينية، تحت ما سمي بموجب اتفاقية أوسلو المناطق ألف، بينما كانت المناطق (ب) و(ج) تخضع فقط للسلطة الأمنية الفلسطينية، وبينما بقيت السلطة السياسية للاحتلال الإسرائيلي، على أمل تحولها يوماً ما إلى مستوى المناطق المصنفة ألف، إما بتوسيع تنفيذ اتفاقية أوسلو، أو (وهذا كان حلماً جميلاً وعد به أنفسهم من وقّعوا اتفاقية أوسلو) عند قيام دولة فلسطين الموعودة، فتصبح كل الأراضي العربية المفترض أن تنسحب منها إسرائيل، حتى حدود الرابع من يونيو/حزيران (أي كل الضفة الغربية، وكل قطاع غزة) في إطار السلطة الكاملة لدولة فلسطين المستقلة.لكن الأيام لم تحمل معها فقط خيبة أمل كبرى في هذا الاتجاه، بل إن اسرائيل قامت بعد العام 1993 (عام أوسلو) بعمليات اجتياح كبرى، خاصة بعد العام ،2000 للضفة الغربية وقطاع غزة، مكتسحة كل المناطق المصنفة ألف، بحيث أصبحت هذه المناطق لا وجود عملياً لها على الأرض، بل هي موجودة فقط على الورق.قطاع غزة كانت له دائماً، وسط كل هذه التحولات، خصوصية بالغة الإزعاج للسلطة الإسرائيلية، مما جعل كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تفكر في التخلص من القطاع من طرف واحد، وحتى من غير بلوغ أي مرحلة متطورة في الحلول السلمية المفترضة. وقد بلغ الأمر بأرييل شارون، عندما كان زعيم إسرائيل القوي، أن اتخذ قراراً صعباً ونفذه، بإلغاء المستعمرات اليهودية العامة في قطاع غزة تمهيداً للتخلص من القطاع كله.وبالفعل، ولأسباب عديدة أشرنا إلى بعضها، ومن أهمها ما يشكله قطاع غزة من بؤرة سكانية بائسة حبلى بكل دوافع العنف اليائس، ظل قطاع غزة (بغض النظر عن الوضع القانوني الذي وصلت إليه مشاريع التسوية الفاشلة والمجهضة)، يتمتع داخلياً بما يشبه الاستقلال الذاتي.لكنه كان دائماً، استقلالاً ذاتياً داخلياً محكوماً بالكامل بالسلطة العليا للاحتلال الإسرائيلي، التي أوقفت نهائياً العمل البسيط الذي كانت تدور عجلته في مطار غزة الصغير، ومرفأ غزة الصغير. وأصبح الاحتلال الإسرائيلي، يستعيض عن الوجود المباشر في قطاع غزة (وهو وجود مزعج ل إسرائيل) بالسيطرة الكاسحة على القطاع براً وبحراً وجواً. وكان من نتائج هذه السيطرة، الوضع الشاذ والمهين لمعبر رفح، وهو نفسه الوضع الذي جعلنا نراه مرادفاً للوضع العربي العام، وكأنه يلخصه كله في بقعة عربية صغيرة.فمن حيث المبدأ، وإذا عدنا إلى السطور الأولى في هذا المقال، فإن معبر رفح، بصفته معبراً حدودياً دولياً (من قبل قيام إسرائيل) بين فلسطين ومصر، يفترض أن يخضع للسلطة المصرية في جانبه المصري، وللسلطة الفلسطينية في جانبه الفلسطيني، شأنه في ذلك شأن أي منطقة حدودية في هذا العالم.لكن بؤس الوضع الفلسطيني، الذي يشبه كثيراً بؤس الوضع العربي (بل هو جزء منه)، أدى دائماً إلى أن تكون إسرائيل شريكة في هذه الحدود. ومع مرور الأيام وتفاقم مشكلات الحياة اليومية الطبيعية في هذه المنطقة الحدودية الحساسة، تبين أن سرائيل لا تمارس فقط دور الشريك العادي، في منطقة يفترض أن لا علاقة قانونية لها بها، وفقاً للقانون الدولي، لكنها تمارس دور الشريك المتسلط، بل هي تمارس في النهاية دور الآمر الناهي الذي يملك القرار الأخير في التحكم بالبشر والبضائع التي تمر أو لا تمر عبر ممر رفح، ذهاباً واياباً.وإذا كانت السلطة الفلسطينية فاقدة لأي قدرة على التحرك في هذا المجال، فإن السلطات المصرية تقول إنها مرتبطة مع إسرائيل بترتيبات رسمية متفق عليها، في إطار رعاية دولية.لكن الحصار اللاإنساني الفظيع الذي فرضته إسرائيل على غزة في الآونة الأخيرة، لأسباب سياسية واضحة، مغطاة بالأسباب الأمنية، جاء يفضح هذا الوضع الشاذ، بل المعيب، على معبر رفح، فلسطينياً وعربياً.حتى هنا، يبدو التشابه، بل التطابق بين الوضع الفلسطيني والوضع العربي على معبر رفح واضحاً، لكن الدلالة الرمزية ترتفع إلى ذروتها عندما نقارن بين التصرف الرسمي العربي والتصرف الشعبي العربي في هذه المأساة.ففي الوقت الذي لم تستخرج المأساة من الوضع العربي الرسمي سوى قيام جامعة الدول العربية بدعوة مجلس الأمن الدولي للتدخل في الوضع، فقد ترجم التصرف الشعبي زحفاً لجماهير الجائعين في غزة واقتحام أسوار معبر رفح، وسط حيرة رجال الشرطة المصريين، الذين لم يستطيعوا في النهاية سوى الترحيب بأهلهم المقتحمين لأسوار الوحشية الإسرائيلية، والعجز العربي.خلوا أبصاركم على معبر رفح، ففيه الخلاصة الكاملة للأوضاع العربية برمتها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"