ثقافة شعبية ... نحو جمع ودراسة الفنون القولية البدوية للقبائل العربية

قبيلة شمّر نموذجاً (1 - 2)
00:42 صباحا
قراءة 12 دقيقة
إذا كانت للروايات الشفاهية أهمية في تناول الأحداث التاريخية في العصور المختلفة، فإن أهميتها تزداد إلى الباحث والمهتم بتاريخ الإمارات في القرن العشرين، إذا تعرّض لتاريخها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في تلك الفترة. ففي مثل هذه الموضوعات، يجد الباحث أو المهتم نفسه في حاجة ماسة للرواية الشفهية، التي يرويها المعاصرون الذين ما زالوا على قيد الحياة، خاصة وأنه يواجه عندما يريد تأصيل بحثه أو قراءاته، بوفرة طاغية من الوثائق البريطانية وغير البريطانية كالهولندية والبرتغالية. وهذه الوثائق منظمة ومرتبة ومفهرسة ويسهل الاطلاع عليها. ولكنها ولكونها نتيجة تدوين الإدارات الاستعمارية الإمبريالية تركز على الأمور السياسية، خاصة العلاقات مع بريطانيا، والمعاهدات التي عقدتها مع شيوخ المنطقة. وكذلك على النشاط البحري لأهلها، الذي كان يتعارض في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، مع محاولات بريطانيا آخر قوة إمبريالية كانت مهيمنة على المنطقة وفي فرض سيطرتها البحرية على المنطقة.يجد الباحث أيضاً كثيراً من هذه الوثائق تتعرض لتجارة الرقيق وتجارة السلاح، وأساليب مكافحتها، والمعاهدات التي عقدت بشأنها مع شيوخ الإمارات، ويمكن تفسير ذلك في ضوء اتخاذ بريطانيا من مكافحة الرق وتجارة السلاح، وسيلة من وسائل السيطرة على المنطقة. ويجد كذلك قدراً لا بأس به من المعلومات عن قبائل المنطقة وأسرها الحاكمة، وظروف تولي الحكام مناصبهم. وهذه الوثائق بصورة عامة لم تكن سوى تعبير عن حاجة السلطات البريطانية للمعلومات، والإجراءات والوسائل اللازمة لفرض وتدعيم سيطرتها على المنطقة.لذلك ولما كان اهتمام بريطانيا مركزاً على البحر وشواطئه، فإنه لم يكن يعنيها كثيراً ما يجري في الداخل، إلا في حالة تأثيره على مركزها، لذلك نجد أن الوثائق البريطانية التي تتعلق بالأمور الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الإمارات، تكاد تكون نادرة إن لم تكن معدومة، لذلك كان لجوء الباحث إلى الاستعانة بالرواية الشفاهية يُعَد هو الخيار الأمثل. ولا ريب أن هذه الروايات الشفاهية تعد وسيلة من وسائل السرد أو القص التاريخي المتصل الذي يهم المجتمعات بمختلف أجناسها وثقافاتها، لأن هذا النوع من السرد التاريخي، يحفظ لهذه المجتمعات أحداث التاريخ الذي لم تعاصره الأجيال التي تعيش في مراحل عمرية مختلفة، حيث تعتبر هذه الروايات الشفاهية بالنسبة لهم عن تاريخهم الماضي، ثقافة تاريخية جماهيرية، تعطي لهم صورة عن النسق الخلقي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، الذي كان سائداً في بلدهم، في الحقبة التاريخية التي تحكي عنها الرواية ولم يعاصروها، ولم يروا معظم ما يُروى فيما يرونه مكتوباً، وهذا يجعلهم يقفون على مدى صحة المقارنات الثقافية المتداخلة، والمقارنات التاريخية، وذلك في ضوء المسائِل التي امتدحت أو قللت من شأن أي موضوع شائع بينهم.إن للتاريخ الاجتماعي أهميته، فالحياة اليومية للناس تحمل في طياتها صوراً متعددة تتمثل في العلاقات الإنسانية والظروف الاقتصادية، وطبيعة حياة الأسرة، والحياة المنزلية، وحياة القبيلة، وعاداتها وتقاليدها وإرثها الثقافي، وتأتي الشعارات التي ترفعها القبائل والعشائر على سبيل المثال، وشعارات العائلات الكبيرة ونخوة الأفراد بشقيها النثري والشعري في أعلى قائمة المأثورات أو المتواترات في هذه المنطقة، وتمثل بعد النقد، مصدراً قيماً للتاريخ. فتحليل نخوة قبيلة ما، أو عشيرة ما، يكشف عن حجم ارتباطها ونوعيته بالقبائل والعشائر الأخرى في المنطقة وخارجها، وكثيراً ما نجد النخوة ذاتها عند قبيلة أو عشيرة تبعد عن الأخرى مئات أو آلاف الأميال، مما يدل على انشقاقات أو هجرات من هذه المجموعة القبلية أو تلك، وكثيراً ما تكشف نخوة الشيوخ عن قيم أخلاقية يعيشها ذلك الشيخ أو يتطلع إليها.عند الحديث عن العلاقة بين المأثور الشعبي والذاكرة الجماعية، يمكن القول: إنها علاقة التنقل ذهاباً وإياباً بين مأثور مادي، منتوج يتموقع ضمن مساحة جغرافية معنية في المخيلة الإنسانية. ومما لا يرقى إليه الشك أن أحد أهم مظاهر هذه العلاقة هو أشكال التعبير الشعبي، ولعل من أهمها برأينا الشعر الشعبي وما تزخر به البلاد بالطبع من عمران ورسومات وأوانٍ وموسيقا وغيرها. وهذه العناصر الثقافية متماهية الحدود مع واقع راسخ يقبع هناك، يعيّن هويتها ويمنحها الثبات والدوام. ولعل المثال الذي يمكن اعتماده هنا لتوضيح الفكرة، هو مسألة جمع هذا التراث الشعري البدوي الشعبي للقبائل العربية. فالمأثور الشعبي لا يحفز الذاكرة فحسب، بل يحفز الأحلام والأخيلة، والشعر والرسم والموسيقا. وقد تتحول الذاكرة والفنون الجميلة إلى أداة استحواذ على الرغبة في الغزو والهيمنة، من ذلك مثلاً: الاستحواذ الذي استبد به المكان على الصليبيين الأوروبيين، على الرغم من المسافة الشاسعة التي فصلتهم عن القدس. حيث انتشرت مشاهد صلب المسيح عليه السلام وميلاده، في لوحات فناني النهضة الأوروبية وكأنها تجري في فلسطين، ممسوخة نظراً لأنهم لم يشاهدوا المكان في حياته. واتخذ المكان تدريجياً، شكل مشهدية مثالية غذت المخيلة الأوروبية لمئات السنين.ولكن التفاعل بين المأثور الشعبي والذاكرة الجماعية من شأنه أن يتسبب في إحداث عمليتين متلازمتين، بحيث إنه كلما كانت ثمة استعادة ذكريات يصحبها اختلاق كون هذه الثقافة تبقى ثقافة شفاهية ما لم تقيّد بالتدوين، تعتمد على الذاكرة ودقة الحفظ وتعدد الروايات ربما احيانا لقصيدة واحدة وهي تبقى كما قلنا ثقافة متناقلة من جيل الى جيل، وهذا يساعد على خصوبة الثقافة وحيويتها وصيرورتها. ولعل هذا ما يجعلنا اليوم ندرك كنه استمرار الصراع وصعوبة حله بين الذاكرة التاريخية الصرف - إن وجدت - والذاكرة المختلقة الحديثة. وهل يمكن اعتبار هذا التفاعل والحيوية في صيرورة المأثور الشعبي وما يشكله اختلاق الإرث، اعتداء على التاريخ وبالتالي اعتداء على الذاكرة الشعبية؟ ولكن الذاكرة الجمعية ليست شيئاً خامداً سلبياً، بل مجال فعالية يتم في إطاره انتقاء أحداث الماضي وإعادة بنائها وصونها وتحويرها ومهرها بالدلالات السياسية. وهذا في الحقيقة غيض من فيض مما يمكن ان نجده في شعر القبائل البدوي الشعبي.وكما هو معروف أن الثقافة الشعبية في عمومها ثقافة شفوية، وأن طريقة الحصول عليها غالباً ما تتم عن طرق تحويلها إلى وثائق مكتوبة تشرف على إنجازها الفئة المهيمنة، أي النخبة باعتبارها المالكة لأداة الكتابة. وهي لذلك تُخضع المعتقدات والسلوكات الشعبية إلى ضوابط، ومصفاة، تتلاءم وأهدافها التي كثيراً ما تتسبب في تحوير وتزوير هذه الثقافة وتبعدها عن أصلها.وقد يكون سائدا في بعض الأذهان أن العرب القدامى تاريخيا، ولاسيما في العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام، كانوا على الاطلاق أرباب فصاحة وبلاغة، ينظمون الشعر ويرتجلون الخطب، ويتحدثون في حياتهم من دون خطأ ولا لحن. ان هذا الاعتقاد، ان صح في جملته، فإنه غير صحيح على اطلاقه، وهو ينطوي من بعض وجوهه على نظر. وفي اعتقادنا أن الرواة الأوائل في مستهل حركة التدوين الناشطة عند العرب، كانوا على قدر من الحيرة تجاه عدد وافر من النصوص التي كانت تنطوي على عبارات تفتقر الى الاستطراد والاتساق من الوجهة اللغوية النحوية. ثم ما لبثت هذه التركة الحافلة أن آلت الى اللغويين والنحاة وجعلتهم في غمار ركام هائل من كلام العرب، منظومه ومنثوره. وما كان أشق عليهم ان يلموا جنبات هذا الخليط من كلام القبائل وبقايا لهجاتها، ويشرعوا في تلك المهمة التاريخية العسيرة، مهمة الجمع ثم التّقعيد. ومعلوم في تاريخ التراث العربي أن أبا عمرو الشيباني وحده، جمع شعر ثمانين قبيلة، وأن أبا سعيد السكري جمع شعر خمس وعشرين قبيلة، عدا ما جمعه الآخرون مثل الاصمعي وابن الأعرابي.أعتقد ان أول ما يجب ان نهتم به هو الشعر الشفهي، او ما يسمى الشعر النبطي او الشعبي او البدوي، لما له من قيمة علمية ومكانة أدبية. فلو ألقينا نظرة شاملة على مجتمع الجزيرة والخليج العربي لوجدنا ان الشعر النبطي من أغنى عناصر التراث وأغزرها وأكثرها التصاقا بواقع الحياة والمجتمع، اذ انه يستقي مواضيعه من حوادث التاريخ، وقيم المجتمع، وممارسات الناس اليومية. فهو دون بقية الآداب الشفهية هي الاخرى ثروة أدبية ضخمة، وظاهرة من ظواهر الأدب الشعبي الفريدة من نوعها التي تخص مجتمع الجزيرة من دون غيره من المجتمعات الأخرى. فهو فريد في شكله ومضمونه، كما انه فريد في وظيفته الاجتماعية ومكانته الادبية. لذا فإن الشعر النبطي مصدر مهم لا يمكن التغاضي عنه لمن يزمع القيام بدراسة جدية ومتمعنة لجغرافية الجزيرة العربية، وتاريخ سكانها من حاضرة وبادية، ودراسة أحوالهم السياسية والاجتماعية.فقد كتب الكثير من المستشرقين عن مفهوم القبيلة وقد تمت تلك الكتابات تحت إلحاح هاجسين الأول تمحور حول محاولة لفهم الإسلام وذلك من خلال البحث عن جذوره في الخيمة والقبيلة. والهاجس الثاني كان تقديم النصيحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للإدارات الاستعمارية، في كيفية التعامل مع العرب. لا بد من الإقرار بهذين الهاجسين، ولكن ما قدم من الدراسات والبحوث الاستشراقية في هذا المجال وكانت من أغزر وأتم الدراسات المنهجية العلمية، المعززة بالبحوث الميدانية، حيث كان اغلب أولئك المستشرقين هم من المستعربين والرحالة من الأكاديميين المتخصصين، سواء في التاريخ أو الجغرافيا أو الاثنوغرافيا أو الانثروبولوجيا أو اللغة العربية وفقه اللغات والآثار وما إلى ذلك من فروع العلم. وقد شكلت تلك الدراسات المتميزة التي أنتجها الرحالة المستشرقون مكتبة صلبة لكل من يريد أن يفهم الشرق على حد تعبير ادوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق وجاء فيها ذكر ومعلومات مفصلة عن قبيلة شمر العربية القبيلة التي نتحدث عنها اليوم.في كتابه آل الجرباء في التاريخ والأدب يذكر المؤلف أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري أن علم الانساب كان، وما زال إلى حد ما، هو المدخل لعلم التاريخ عند العرب، فهو اول ما دُونَ في الحقيقة من ذلك العلم، كما يتضح من الكتب المؤلفة في السيرة النبوية، وفي مؤلفات الكلبيين، محمد بن السائل وابنه هشام، والزبير بن مصعب وابن اخيه الزبير بن بكار، كصاحب أنساب الأشراف وغيره ممن عاصره أو أتى بعده.تطورت بعد ذلك الدراسات التاريخية بصفة عامة، حتى أصبح البحث في علم الأنساب في عصرنا منحصراً في جانب من جوانب التراث العربي، باعتبار أن ذلك العلم جزءاً من هذا التراث، بل هو أبرز مظهر من مظاهره. حيث يمكن اعتباره أنه مجموعة من المعلومات المتوارثة المتناقلة بين الأجيال لإبراز أمجاد السلف، والتغني ببطولاتهم التي تزخر بها أخبارهم وأشعارهم، فتجيش بها عواطفهم، وتصورها أخيلتهم تصويراً إن أعوزه المنطق القويم في كثير من الأحيان ربما لدخول بعض تلك الأحداث في دائرة الخوارق والأساطير التي ترفدها الذاكرة الشعبية على مر السنين ولكن تلك الأحداث والقصص في الحقيقة لن يعوزها الإمتاع والطرافة.واستلهام المعاني النبيلة التي يمكن الوقوف عليها خاصة ما جاء منها على هيئة قصائد من الشعر الشعبي خلّدت أحداثاً ووقائع تاريخية، كانت الشعبية الشفاهية هي الحاضن الوحيد والأمين لها في ظل ثقافة بدوية ظلت شفاهية غير مدونة حتى الأمس القريب، فكانت تلك الأشعار بحق سجلاً حافلاً حفظ لنا من خلال الذاكرة الشفاهية الكثير من القصص والأحداث التاريخية التي حدثت في تلك الأيام الغابرة.ويشير الناشر حمد الجاسر في تقديمه للكتاب، إلى أن هذه الدراسة تدخل في مجال دراسة تاريخ البيوتات بصفة عامة، فتاريخها في الواقع من الشمول بحيث يتناول تاريخ القبائل بأسرها، ثم هو تاريخ عام لهذه البلاد يقصد المملكة العربية السعودية عما يفُهم في السياق، ممثلاً في أبرز مظهر من مظاهر الحياة فيها، وهو التراث.أما ما يهمنا نحن في بحثنا هذا، فهو الإرث الشعري لهذه القبيلة، فهي شأنها شأن سائر القبائل العربية، لا شك أنها شجرة وارفة الظلال، مملوءة بثمر الشعر. وهذا ما سوف نراه من خلال تصفحنا لتاريخ هذه القبيلة. ولا ينسى الناشر حمد الجاسر أن يذكر ملاحظة مهمة في هذا المجال في تقديمه لكتاب الظاهري، فيقول ان مجال العناية بدراسة الأنساب، جديرة بالنظر إليها بعين باحثة متبصرة، بعيدة عن التعصب والتأثر والتسرع في رمي التهم على كل من يبحث في هذا المجال، ورميه بالتعصب لجهة أو فئة أو قبيلة معينة دون تثبت وروية، فيقول في نفس المقدمة، قد يحدث لبعض القراء من التأثر ببعض ما يرد في كتب الأنساب، وهذا التأثر حسب الناشر، في نظر ذوي الألباب لا معنى له، فأخبار الماضي وحوادثه، وجميع ما وقع فيه من خير أو شر، ذهب، وذهب أهله بما فعلوا فيه، وانمحت آثاره بفضل الله تعالى. ويؤكد ضرورة أن يكون الجيل الجديد أجل وأسمى في مستوى إدراكه وتفكيره من أن يتأثر بحوادث الماضي أو آثاره.وما يهمنا في الكتاب أن مؤلفه تتبع تاريخ هذه الأسرة مع ما لنا على ما أورده من ملاحظات سنوردها ونناقشها في حينها من خلال ما تناقلته الذاكرة الشفاهية من أشعار شواهد شعرية- حيث يقول في المقدمة، إنه فيما بين عامي 1373- 1378ه كنت أسمع أخبار عبدالكريم الجرباء أبو خوذة وصفوق الجرباء، على لسان محمد بن يحيان رحمه الله وبعض من يفدون الى شقراء بلدته في رمضان ممن يتلقفهم الوالد رحمه الله. وما بقي من أذكارهم العطرة ظل في ذاكرتي كأعقاب الحلم، ومنذ بدأت تأليف كتابي ديوان الشعر العامي تلقفت عن آل الجرباء كغيرهم من الأُسر أشتاتاً من هنا وهناك لتكون ذخيرتي في تفسير هذا الشعر فحسب، ولم أدْرِ أن هذهِ الشذرات ستكون بحثاً منهجياً عن أسرة آل الجرباء.ويعدد المؤلف المصادر المدونة التي اعتمد عليها فيذكر منها انه اعتمد على إفادات زودني شيخي حمد الجاسر بإفادات جديدة من كتاب مطالع السعود لابن سند، وإفادة واحدة من مجلة العرب التي يصدرها انستناس الكرملي، ثم ناولني ما ينقصني من كتاب عشائر العراق وهو الجزء الأول الذي توسع في الحديث عن آل الجرباء، إلى معلومات اخرى تجمعت عندي، وفاتني من المصادر كتاب كتاب الشام لوصفي زكريا.هذه كانت أهم المراجع المدونة التي رجع إليها المؤلف. ولكنه يشير في المقدمة نفسها إلى أنه قد استعان بعد الله بالرواية الشفهية لأنه حسب ما يرى أن الومضات عنهم في كتب التاريخ والأنساب لا تعطي صورة كاملة فاستعنت بالرواية الشفهية والشعر العامي في تتميم هذه الصورة.ويشيد المؤلف ب الجرباء وهم زعماء شمّر ورؤساء الجبل، وإن أبعد ذكر لهم وجده عن وفاة اثنين منهم عام 1100ه وعام 1103ه وقد رحلوا من نجد عام 1205ه بعد هزيمتهم أمام ابن سعود فبنوا زعامتهم في العراق وسوريا.وقبل ذلك يذكر أن أسرة الجرباء من الاسر التي تفتخر بلادنا بأمجادها عندما رحلت الى العراق وسوريا، فكانت بناءً وطنياً في هذين القطرين، وكوّنت أدباً نجدياً هناك، ونشرت عادات وتقاليد البلد الذي رحلت منه، إلا أن مما لا يحمد للشمامرة هناك الأمن، وإعادة سنة السلب والنهب والثارات الجاهلية.ثم يروي هذه الواقعة نقلاً عن عبدالجبار الراوي كشاهد على ما أورده في كلامه السابق، ويقول إن فرحان باشا بن صفوق الجرباء قال لأهل قرية المشاهدة في العراق وقد اعجبته ضخامة أجسامهم: لماذا لا تغزون؟فقالوا: لا نحسن الغزو ولا نستطيعه.فقال ما معناه: اغزوا من هم دونكم.ونسي المؤلف الكريم أن عادة الغزو والسلب والنهب الجاهلية لم تكن وقفاً على أبناء قبيلة شمّر وحدهم في ذلك الوقت، ولا أدري إن كان المؤلف قد عَد ما قاله فرحان باشا الجرباء مما يعد تحريضاً صحيحاً جاداً على الغزو والسلب والنهب، فقد كانت القبائل كلها من دون استثناء تتوق إلى الغزو الذي لم يعتبر منقصة أو عاراً تخشاه القبيلة في ذلك الوقت، بل كان مثالاً من أمثلة الرجولة والبطولة، في زمن كان الأمن فيه مفقوداً، وما على أبناء القبيلة إلا أن يكونوا على استعداد دائم للدفاع عن أنفسهم وعن نساء وشيوخ وأطفال القبيلة قبل أنفسهم، بل كان يصل بهم الأمر إلى أن أحدهم لا ينام إلا ويده على بندقيته. ويلفت المؤلف إلى أهمية العناية بالشعر العامي بلهجة أهل نجد منذ نشأته إلى استقرار الجزيرة، لتفسير التاريخ وتعميقه. كما يرى أنه يمكن الاستفادة في هذا المجال من الاتصال بالأسر النجدية والأعيان من أفخاذ البوادي للإفادة من وثائق أوقافهم ومواريهم.ومن الأمور التي تطرق إليها الكتاب، هي عناية الشعر النبطي بوصف وتخليد الأمكنة، فيورد على سبيل المثال بعض الأشعار التي تتحدث عن قصر برزان وما وصلت إليه شهرة هذا القصر فيورد هذا البيت لشيخ العجمان راكان بن حثلين حيث يقول:ياخاطري ذِ بّي خرايم طميّةتَنَحّري برزان زين المبانيوبيتاً آخر لحمود بن عبيد بن رشيد:فانْ كان ابن هندي نوانا ببرزانفحنّا على عرْوا قصرنا مسِيْرِوعن نسب آل الجرباء وقصة رحيلهم من الجنوب إلى بلاد الجبلين، ثم رحلتهم إلى العراق وسوريا فيذكر أن المتفق عليه بين النسابين ان آل الجرباء من عبدة من شمر. ومنهم قسم دخلوا في سنجارة من شمر. وشمر بطن من ثعل بن عمرو من طيء كما قال ابن الكلبي. وهي اليوم من كبريات القبائل العربية. كنوز البشريةالدراسات المهتمة بالشعر النبطي، الشفاهي، وهو لب ثقافة هذه القبائل وأجمل إرث باق لها وسيبقى، تعد على أصابع اليد الواحدة في عالمنا العربي، مع انه ارثنا وبضاعتنا ونحن أولى ان نهتم بها أكثر من غيرنا.لا شك أن هذه الدراسات تحتل في الوقت الراهن مكانة مرموقة في الأوساط العلمية خاصة الغربية منها، لاسيما في حقلي الأدب والفلكلور، وذلك بعد ان نجح العالمان الامريكيان ملمان باري والبرت لور في فرض نظريتهما التي سمياها: نظرية الصياغة الشفهية The Oral Formulaic Theory وهي نظرية تعد الآن من احدث النظريات في مجال البحث الأدبي، واكثرها رواجا. والعلماء الغربيون الآن يتجشمون المخاطر الجسيمة ويتكبدون الخسائر الفادحة للقيام برحلات علمية الى المجتمعات التي توجد فيها طبقات أميّة تحتفظ بتراث شعري شفهي من أجل دراسته. فحريّ بنا نحن هنا في دولة الامارات ملاحقة هذه الكنوز البشرية كما اطلقت عليهم منظمة اليونسكو مؤخرا وهم يعيشون بيننا غير بعيدين عنا، والاسراع في تسجيل ما لديهم من مخزون شعري وقصصي حكائي قبل فوات الاوان، فنحن زمنيا تجاوزنا القرن العشرين الذي رحل بالأمس القريب، لكنا ما زلنا في غفلتنا عمن حولنا من هذه الكنوز مع الأسف.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"