عادي
قراءات

«مذبحة القطط».. صورة دموية من عصر التنوير

23:41 مساء
قراءة 3 دقائق
2001

محمد إسماعيل زاهر

أصبح لكل شيء تاريخ، من هذا المنطلق نستطيع قراءة كثير من الأعمال التي تترجم إلى العربية الآن، وترصد حياة الناس الحقيقية، أو ما يحلو لمنظري مدرسة التاريخ الجديد أن يُطلقوا عليه «التاريخ من أسفل»، والذي يختلف عن التاريخ التقليدي في العديد من السمات، لقد كان هذا الأخير يركز في المقام الأول على الرجال العظام والأحداث المصيرية والأفكار الكبرى، أما التاريخ الجديد فمداراته أوسع من ذلك بكثير، وتمتد لتشمل أوجه النشاط البشري المختلفة.

لقد اعتمد التاريخ التقليدي في تتبعه للوقائع بالدرجة الأولى على الوثائق والسجلات والمصادر الرسمية، وكشفت حركة التاريخ الجديد أن كل هذه الأدوات تعبر عن وجهة نظر الجهات الرسمية، ولا تلتفت إلى وجهات النظر الأخرى. ويميل المشتغلون بالتاريخ التقليدي إلى تأكيد أنهم يعبرون عن الحقيقة؛ بل يصرون على أن التاريخ علم متكامل الأركان، بينما يتسم أتباع التاريخ الجديد بروح التواضع، فأي حدث قابل للتأويل، ولا نهاية لوجهات النظر، ولذلك يعتمدون على الآداب والفنون والثقافة الشعبية في تأريخهم.

عندما تقرأ موضوعات التاريخ الجديد تشعر بأنك أمام منظور مختلف للماضي، ومعالجة مغايرة من حيث الأفكار والمنهج والأدوات، هنا بإمكانك أن تعثر على حزمة من المؤلفات في تاريخ: القراءة، الكتابة، الشفاهية، النساء، المدن، العمارة..

ينتمي كتاب روبرت دارتون «المذبحة الكبرى للقطط.. وحلقات أخرى في التاريخ الثقافي الفرنسي» إلى فضاء التاريخ الجديد، ويتضمن عدة دراسات. وفي مقدمته للكتاب يؤكد دارتون أن التاريخ يضم كثيراً من الظلال، والأحداث المنسية التي لم يقترب منها أحد بعد.

الدراسة الأساسية في الكتاب تدور حول قيام مجموعة من عمال مطبعة «جاك فينسنت» في شارع سان سيفران في باريس في أواخر ثلاثينيات القرن الثامن عشر بمذبحة كبرى لعشرات القطط، كان العمال مجموعة من الصبية الذين يشتغلون في أجواء أقرب إلى روايات تشارلز ديكنز، يسكنون حجرات قذرة، ويحصلون على أجور زهيدة، ويمنحون طعاماً كثيراً ما كان متعفناً، ولا يستطيعون النوم مبكراً بسبب عواء قطط السيد مالك المطبعة وزوجته، وهنا يستعيد دارتون شهادات بعضهم مثل العامل نيكولا كونتا، الذي أشار إلى أن العمال/الصبية قرروا في إحدى الليالي التي جافاهم فيها النوم، تنفيذ مكيدة يدبّرونها للقطط (25 قطة) كان السيد صاحب المطبعة يطعمها الدواجن المسلوقة، لذلك قرر أحد الصبية يدعى ليفييل، التسلل ليلاً إلى سطح البيت المجاور للمطبعة والذي يسكن فيه ذلك السيد، وظل يموء طوال الليل، فشعر الرجل بانزعاج واضح وفي الصباح كلف عماله بالتخلص من القطط.

شكل العمال محكمة رمزية للقطط، وأدانوها وقرروا إعدامها، فضلاً عن عشرات القطط الأخرى المشردة والمتسللة إلى المنطقة، واستخدموا في قتلها كل ما توافر لهم من أدوات: المكانس وقضبان المطبعة؛ بل شنقوا بعضها، ودفنوها في أجولة وتخلصوا منها، وظلت الحادثة مدعاة لضحك العمال وسعادتهم على مدار فترة طويلة؛ إذ أعادوا تمثيل المحاكمة 20 مرة، وذلك كلما شعروا بالضجر وتلمسوا القليل من المرح.

كيف نفهم تلك الواقعة الصادمة بالنسبة للقارئ الراهن، يضيء دارتون على ثقافة تلك المرحلة، فالحكايات الشعبية المحكية أو المكتوبة للأطفال كانت تمتلئ بعنف لا حدود له، هنا لابد أن نُذكر القارئ بالأمريكي ليمان فرانك بام، وهو يصدّر قصته اللافتة «ساحر أوز العجيب» في عام 1900، بالدعوة إلى ضرورة أن تتخلص حكايات الأطفال من كل ما يثير الرعب.

لنعود مرة أخرى إلى دارتون وهو يغوص في مفاصل هذا العصر، فالكرنفالات الشعبية كانت تتضمن طقس تعذيب القطط، وكان هناك اعتقاد منتشر أن القطة ما هي إلا ساحرة لابد من التخلص منها، وكأن دارتون يود القول إن تلك الثقافة الشعبية كانت تتناقض مع الصورة الوردية التي رسمها التاريخ التقليدي لعصر التنوير.

يثير الكتاب حزمة من الأسئلة، منها ما يتعلق بكيفية إدراكنا للتاريخ، وتفهمنا لأحداثه في سياقاتها المختلفة، وعدم محاكمة الماضي بقيم الحاضر، ومنها ما يرتبط بالبحث في جذور أدب الطفل وتطوره، ومنها ما يخص تلك التمايزات الثقافية التي ربما تكتشفها قراءة جديدة لتاريخنا العربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"