"السودان" إلى أين يمضي؟

04:16 صباحا
قراءة 5 دقائق

تكاد السودان تكون أهم دولة لمصر على الإطلاق، ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي ولا مجرى النيل الذي يمر عبر أراضيها وحده ولا بالوشائج العميقة التي صنعتها العوامل التاريخية والجغرافية والبشرية، ولكن ربما لسبب آخر بدأ يطفو على السطح في العقود الأخيرة، وأعني به ذلك الحجم الكثيف من الضغوط والمخططات الداخلية والخارجية التي تستهدف أكبر دول القارة الإفريقية مساحة والتي ربما تصبح أكثرها ثروة، وتبدو خطورة الموقف من أن معظم ما يتعرض له السودان ينطوي تلقائياً على نوع من التهديد لمصر ومحاولة تطويقها جنوباً، والأمر يحتاج والحال كذلك إلى دراسة متأنية تضع النقاط على الحروف وتجلي قدراً كبيراً من الغموض الذي يحيط بمستقبل ذلك البلد العربي الإفريقي الشقيق . دعنا الآن نرصد بعض الملاحظات التي تمثل عناصر البيئة السياسية الحاضنة للتطورات المتوقعة على أرض السودان الذي ينتظر أحداثاً جساماً في الشهور المقبلة .

أولاً إن حدود الدول الإفريقية كما تركها الاستعمار تمثل حداً أدنى لما يتحتم الحفاظ عليه، ولقد اعترفت منظمة الوحدة الإفريقية قبل ميلاد الاتحاد الإفريقي بالحدود القائمة في القارة، رغم أن معظمها تحدد بإرادة المستعمر الأجنبي، والسودان تحديداً بلد الأعراق المختلفة والأصول المتعددة اختلطت على أرضها الدماء العربية والإفريقية وامتزج الإسلام والمسيحية بمجموعات بشرية لا دينية أيضاً، وكنا نتصوَّر أو نتوهم أن تجربة التعايش المشترك بين هذا الخليط الثري والمزيج المتعدد يمكن أن تصنع دولة متماسكة مثلما هو الأمر بالنسبة لدولة مثل الهند على سبيل المثال، ولكن للأسف فإن التوجهات الفكرية والمنطلقات العقائدية والاختلافات السياسية دفعت بالسودان في اتجاه آخر حتى أصبح تقسيمه مطروحاً وانفصال أجزاء منه وارداً، فبرغم كل الجهود المخلصة والأصوات العاقلة إلا أن الأمر بدأ يتجاوز ذلك حيث ارتفعت حدة الجماعات الانفصالية مع قرب الاستفتاء على نحو غير مسبوق، ولعلنا نتذكر أن الزعيم الجنوبي الراحل جون غارنغ كانت له مطالبه في إطار الدولة السودانية الواحدة، ولم يكن الانفصال خياره الوحيد، ولكنه مضى في حادث طائرة غامض يوحي بأن كل شيءٍ يبدو مدبراً .

ثانياً إن محاولة تمزيق خريطة السودان ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب، فالسودان مستهدف حتى من قبل استقلاله، ولكن الظروف السياسية في السودان والمعتقدات الفكرية والأطروحات الثقافية قد هيأت في مجملها مناخاً معادياً لسلامة السودان ووحدته الإقليمية، وهي أمور تسبب القلق تلقائياً لجيران الشمال بل وغيرهم في المنطقة .

ثالثاً لقد اختارت مصر ومنذ عدة عقود التوقف عن التدخل في الشأن السوداني والاحترام المطلق للشرعية مهما كلفها ذلك من ثمن، وقد التزمت مصر بهذا المبدأ سعياً نحو استقرار السودان وتخفيفاً لحدة الضغط على القوى السودانية المختلفة، ولم يكن الأمر سهلاً، فالسودان هو بلد الشعراء والفنانين والعلماء بل والجماعات الصوفية أيضاً، ولكن مصر أدركت أن جزءاً من الحساسيات التاريخية الموروثة يمكن أن يختفي من خلال الإحساس المشترك بالندية الكاملة والاحترام المتبادل والسيادة المرعية من الجانبين .

رابعاً لقد طرأت على الساحة السياسية في السودان عوامل جديدة تتمثل في تراجع الأحزاب التقليدية وقرب تواري الزعامات الدينية بحيث أصبح الشأن السوداني محتاجاً للغة جديدة وتفكير مختلف، ولكن ذلك لن يمنع من ظهور مشكلات مركبة وأزمات متعددة خرجت من الإرث التاريخي إلى الواقع المعقد، ومما زاد الأمر خطورة تجاه المشكلات السودانية نحو التدويل بصورة لم تكن معهودة من قبل، وهو ما أغرى قوى أجنبية طامعة في أن تدس أنفها في الشأن السوداني في وقت لم يعد فيه للدور المصري، خصوصاً ولا الدور العربي عموماً، ثقل مؤثر في مجريات الأمور هناك .

خامساً لقد كانت مشكلة دارفور ولا تزال هي الضربة القاصمة لوحدة السودان واستقراره لأنها قدمت مبرراً جديداً يدفع الجنوبيين نحو الانفصال، وعندما نبه الكثيرون الحكومة في الخرطوم مع بدايات تلك الأزمة الخطرة كان الرد هو أن النزاع بين قبائل الرعي والزراعة أمر معتاد سنوياً سرعان ما ينتهي، كأنما نسي الأشقاء في الخرطوم أن الأطماع تحيط بهم وأن المخططات تسعى إليهم، وأنا أظن أن مشكلة دارفور جرى التجهيز لها حتى تكون الهدية المسمومة لحكم الجبهة الإسلامية في العاصمة السودانية .

سادساً إن شعار اقتسام السلطة والثروة هو شعار خادع لأنه يعني تلقائياً تكريس مفهوم الانفصال، وهو شعار ظاهره العدالة ولكن جوهره ينطوي على الاتجاه نحو تفتيت الدولة السودانية وتمزيق أوصالها، وأنا مازلت لا أرى مبرراً للحديث عن اختلافات عرقية في السودان، فأطياف اللون موجودة في معظم شعوب الدنيا، كما أن الحديث عن المواجهة بين العروبة والإفريقية هو حديث مصطنع، فقد اختلطت الدماء منذ قرون وامتزجت روح السودان في هوية مشتركة شكلت شخصيته الواحدة .

سابعاً إن تقسيم السودان لن يكون نهاية المطاف ولا الحل لمشكلاته بل إنه قد يكون بداية نزيف جديد تخرج منه صراعات طويلة، إذ إن في شمال السودان عدة ملايين من الجنوبيين يعيشون في العاصمة المثلثة وحولها، كما أن الجنوب يضم مئات الألوف من أبناء الشمال في وقت تظل فيه مشكلة دارفور سيفاً مسلطاً على رقبة الحكومة المركزية والدولة السودانية تجر عليها دعاوى المحكمة الجنائية وأطماع القوى الأجنبية بل وفلول الجماعات التبشيرية، كما أن الدولة العبرية لا تبدو بعيدة عما جرى ويجري، لأنها تسعى إلى موضع قدم في السودان يمكنها من تطويق مصر أكبر الدول العربية وأشدها خطراً على إسرائيل في الحرب والسلم، إذا ما استقرت الأمور وعادت الروح إلى الجسد العربي السقيم .

. . إنني أريد أن أقول صراحة ومن دون مواربة، إننا كعرب لم نقدم لجنوب السودان العوامل الجاذبة لبقائه جزءاً من كيانٍ عربي كبير، فلقد أذهلني أن أرى في زيارة للجنوب منذ سنوات أن الوجود المصري في مدينة ملكال هو مسجد فاروق الأول! وأن الوجود العربي في مدينة جوبا هو مستشفى الصباح الذي أقامته دولة الكويت! ثم بدأنا نسرع الخطى الآن نحو الجنوب لإصلاح ما أفسده الدهر أملاً في انتصار خيار الوحدة وتراجع الدعاوى الانفصالية، وإذا كنت أوجه هذا النقد الذاتي للجانبين العربي والمصري فإنني أخص أشقاءنا في الخرطوم بقول صريح يتمثل في شعوري أن حرصهم على وحدة السودان قائم، ولكنه لا يرقى إلى خطورة مسؤولية مستقبل هذا البلد الإفريقي الكبير، بل إن استغراق حكومة الخرطوم خلال العقدين الماضيين في قضايا حزبية وتفسيرات عقائدية وسعي نحو إضافة اللون الديني للحياة السياسية، أدى إلى اتخاذ ذلك كله تكئة لأصحاب النزعات الانفصالية والترويج لتقسيم الدولة السودانية، حتى لم تعد الوحدة هي الخيار الجاذب في ظل المخاوف من الدولة الدينية، فضلاً عن غرام النظام السوداني أحياناً بفتح جبهات عديدة في وقت واحد بل والبحث عن مشكلات هم في غنى عنها في وقت تشير فيه كل الدلائل إلى أن السودان يربض على مخزونٍ من ثروات هائلة يجب أن يستمتع بها الشعب السوداني كله، فهو شعبٌ مثقفٌ بفطرته ديمقراطي بطبيعته مستنير بأجياله المتعاقبة ومسيسٌ حتى النخاع بسبب استقلاله في الرأي وعشقه للحرية، وإذا انفصل الجنوب فلن تكون له دولة قوية مستقرة، فالنزاعات في داخله لا تقل عنها مع خارجه، أما الشمال فقد يسعى إلى أحضان أشقائه العرب في لهفة يعوض بها معاناة الهوية ويمضي معها بعيداً عن المخططات الأجنبية . .قلبي معك أيها السودان العظيم في عام الحسم الذي لا نريد فيه انفصالاً للعرى، ولكن وحدة متماسكة لدولة ديمقراطية تقوم على التعددية وفهم الآخر وقبول الغير .

ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"