مما لا ريب فيه أن لبنان يقف اليوم على مفترق طرق هو الأخطر في تاريخه المعاصر، صحيح أنه عرف أزمات كثيرة وخرج منها بأضرار فادحة تارة ومحدودة طوراً فاهتز، لكنه لم يسقط، لكن ما يمر به اليوم ليس مجرد أزمة ولو كانت خطرة، إنه ببساطة يقف على شفير هاوية سحيقة، فإما أن يسقط فيها وإما أن ينجح بالقفز في اللحظة الأخيرة إلى المربع الأول من طريق سيكون طويلاً بلا شك ومحفوفاً بكل أنواع الصعاب والمخاطر، هو الطريق نحو دولة القانون والمؤسسات والمواطنة بديلاً عن دولة الطوائف والفساد.
لم يعد هناك من سبيل وسط بين الاثنين، فالثورة الشعبية، جرفت المنطقة الرمادية وانتزعت من الطبقة السياسية شرعيتها، فأضحت مجرد سلطة مكونة من مجموعات من الفاسدين الناهبين الذين يتوجسون الحساب العسير القادم فيخططون للانقضاض على الثورة والمحافظة على مكتسباتهم ولو تطلب الأمر إشعال حرب أهلية جديدة تأكل الأخضر قبل اليابس.
سلوك السلطة السياسية بعد استقالة الرئيس الحريري، لا يشي بأدنى حس من المسؤولية حيال المخاطر التي تهدد البلد بالانهيار. هناك تقاذف للمسؤوليات بين شركاء الحكم بالتوازي مع مساعي لترميم التحالفات السياسية والتسويات المهددة بالانهيار، أي بكلام آخر مساع متجددة لمحاصصة مستمرة.
والمفارقة، لا يختلف سياسيان أو حزبان على أحقيتها وضرورة تلبيتها. الكل من دون استثناء أحد يندد بالفساد ويلعنه ويطالب بمكافحته ويغسل يديه منه وكأنما الفاسد والفساد في كوكب آخر.
وإذا كان السياسيون اللبنانيون، وهم المسؤولون عما آلت إليه الأمور، يتصرفون بخفة وغياب الحس الوطني، فإن العواصم العالمية الفاعلة تغيب، هي الأخرى، عن ساحة الدبلوماسية والوساطة. فكل ما فعلته الولايات المتحدة هو تصريح على لسان وزير خارجيتها بومبيو، يحمل إيران مسؤولية ما يجري في العراق ولبنان. لم يعد أحد يريد أن يبدو ملكياً أكثر من الملك أي لبنانياً أكثر من اللبنانيين أنفسهم. لقد انتهى عهد الاستنفارات الدبلوماسية الدولية حيال الأزمات التي هددت لبنان، وهذا متغير خطير.
لقد انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية في عام ١٩٧٥ لأسباب داخلية وخارجية. داخلياً بدأت الحرب عملياً عندما اغتيل النائب معروف سعد، في عام ١٩٧٣، لدى قيادته لتظاهرة صيادين احتجوا على إنشاء شركة «بروتيين» لصاحبها رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون والتي تتهدد هؤلاء في لقمة عيشهم اليومي. كانت التظاهرة محض مطلبية وترافقت مع إضرابات وتظاهرات مطلبية هي الأخرى اجتمع فيها العمال والطلاب والفقراء عموماً. بعد ذلك بدأت الأسباب بالتراكم لاسيما الإقليمية منها عندما بدأ الخلاف بين اللبنانيين حول الموقف من القضية الفلسطينية يتحول إلى مناوشات عسكرية بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين. كان هناك أحزاب وزعماء سياسيون يناهضون الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان ويعتبرون أن البلد عاجز عن تحمل أعبائه. في المقابل كان هناك من يعتبر أن الأطماع «الإسرائيلية» في لبنان وعروبة فلسطين وانتماء لبنان العربي، كلها تحتم عليه التضامن والتكافل مع الفلسطينيين والدفاع عنهم. كل طرف كان مدعوماً من دول خارجية وسط أوضاع دولية وإقليمية معروفة.
وهكذا تشكلت الأرضية لحرب أهلية انطلقت شرارتها من حادثة «البوسطة» (الحافلة) في ١٣إبريل/نيسان لتشمل لبنان كله وتغدو حروباً دولية وإقليمية بالوكالة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، يقول المتشائمون. هناك ثورة شعبية تحمل مطالب اجتماعية واقتصادية على خلفية نزاع إقليمي باتت لعبته صفرية بين إيران والولايات المتحدة. في لبنان هناك من يدعو إلى «النأي بالنفس» عن هذا الصراع الإقليمي الذي لا ناقة فيه للبنان ولا جمل، في مقابل من يرى بأن سلاح «حزب الله» يحمي البلد من المطامع «الإسرائيلية».
ويضيف المتشائمون، أن المساعدات المالية التي كانت تتلقاها الفصائل المتحاربة من ليبيا والعراق والخليج وحتى كوبا وغيرها (منظمة التحرير الفلسطينية وحدها كانت تنفق مليون دولار يومياً في لبنان)، حمت البلد من الانفجار الاقتصادي، بل وفرت له قدراً من البحبوحة. أما اليوم فلم يعد هناك من يدفع فلساً واحداً، نضبت كل الموارد بما فيها تحويلات اللبنانيين من الخارج، وبالتالي بتنا أمام شح مالي ينذر بعواقب وخيمة.
المتفائلون، من جهتهم، يفاخرون بأن الثورة الشعبية الحالية عابرة للطوائف والمناطق وتحمل شعار: «كلن يعني كلن» أي أنها ضد الطبقة السياسية بمجملها وليس طرفاً دون آخر، وتحمل مطالب لا يختلف على أحقيتها أحد، وقد فشلت محاولات تحريك شارع ضد شارع لضرب الثورة في عمودها الفقري. ثم أن لا مصلحة لأحد في انفجار لبنان الذي قد يتسبب بموجة هجرة عارمة إلى أوروبا والغرب عبر المتوسط، فمشكلة اللاجئين السوريين لا تزال دون حل. ثم إن اللبنانيين بكافة أطيافهم وطوائفهم لا يرغبون في استعادة أشباح الحرب المقيتة وقد برهن حراكهم عن وعي غير مسبوق فاجأ الجميع في الداخل والخارج.
فقط أيام قليلة تفصلنا عن معرفة أيهما سوف يسود: رأي المتفائلين أو تحليل المتشائمين.
د. غسان العزي
مقالات أخرى للكاتب
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
قد يعجبك ايضا
![تحدي القراءة العربي يتوّج الطالب عمر الشموري بطلاً لدورته الثامنة في لبنان](/sites/default/files/2024-07/6182956.jpeg)
![سوق دبي المالي](/sites/default/files/2024-07/6182947.jpeg)
![الملك تشارلز](/sites/default/files/2024-07/6182944.jpeg)
![232 رخصة تجارية هندية في الإمارات خلال النصف الأول 2024](/sites/default/files/2024-07/6182932.jpeg)
![الإمارات تضع حجر الأساس لمشروع صيانة خطوط المياه المُتضررة في خان يونس](/sites/default/files/2024-07/6182936.jpeg)
![جزيئات بلاستيكية داخل الخلايا البلعمية ورواسب الأنسجة الدهنية](/sites/default/files/2024-07/6182926.png)
![صراع على الكرة في لقاء سيتي وسلتيك](/sites/default/files/2024-07/6182921.jpeg)
![برامج المؤسسة تنمي مهارات الشباب في كل المجالات](/sites/default/files/2024-07/6182918.png)