أناشيد الإصرار ضد بكائيات اليأس

05:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
على شبكات التواصل العنكبوتية العربية تنتشر كتابات النّادمين واليائسين ومثبطي العزائم . منهم من يبكي تحطم أحلام جيله القومية في قيام الوحدة العربية وفي تطبيق مبادئ الاشتراكية وفي حرية الأوطان وفي النضال الشعبي العربي الواحد . ومنهم من وصل إلى حافة اليأس من امكانية تحقيق أي إصلاح في مجتمعات العرب المتخلفة الموبوءة بأمراض الطائفية والقبلية والتزمت الديني .
ومنهم من يريد أن ينقل قنوطه وتعب ذاته وضياعه إلى أجيال المستقبل، وبالذات شباب ثورات وحراكات الربيع العربي .
والمحصلة أن جميع هؤلاء يريدون إدخال الأمة في دوامة النقد العاطفي السلبي العبثي للماضي والحاضر، بدلاً من ممارسة النقد الإبداعي الموضوعي المحفز والمجيش لقوى الأمة والمشجع على السير في الدرب النضالي الطويل، من دون إضاعة للوقت بلطم الخدود وذرف الدموع، والبكاء الطفولي المعيب على فرص مبشرة كبرى ضاعت لأننا لم نحافظ عليها كالأناس الناضجين العاقلين .
بصراحة تامة ليس الآن أوان مثل تلك الكتابات، وإذا كان أصحابها قد تعبوا من المشي في دروب النضال الصعبة، وانطفأت في داخلهم أنوار الإصرار على مقارعة مظالم الحياة العربية فليخرجوا من تلك الدروب، وليجلسوا تحت ظلال شجر القنوط والاستكانة بانتظار تعفن أرواحهم البطيء .
ذلك أن الأمة لا تحتاج في ساحات معاركها الحالية للنائحين المولولين، وإنما هي في أشد الحاجة لمنشدي أناشيد النصر الآتي، طال الزمن أو قصر، ولعازفي سمفونيات القدر المجلجل الذي يدق على الأبواب بيد شباب القوة والشجاعة والاستهانة بالسجون والتعذيب والموت على يد الطغاة الظالمين . بعد هذه المقدمة، وهي نقد وإشفاق ورجاء، دعنا نطرح الأسئلة الآتية:
ما الذي يجعل من هؤلاء نائحين يائسين ومتعبين؟ أهي العثرات والانتكاسات، بل وحتى الهزائم، التي حلت في هذه الساحة أو تلك من ساحات ثورات وحراكات الربيع العربي؟ فماذا كانوا ينتظرون؟ أن تكون مسيرة الثورات وحراكات التغييرات الكبرى نزهة ولبناً وعسلاً، لذة لغير المضحين الفاعلين؟
الجواب عن تلك الأسئلة واضح مدوٍ في تاريخ انتفاضات البشرية الكبرى عبر القرون . لم توجد قط ثورة أو حركة تغيير كبرى من دون آلام وأثمان مدفوعة وصعود وهبوط وانتصارات وهزائم وفترات قنوط وساعات أمل . إذاً فلماذا الخاصية المحبطة المضعفة التي يراد إلصاقها بالعرب من دون سائر البشر؟
ثم، هل الربيع العربي شجرة لا جذور لها ولاتربة؟ أليست ممتدة في نضالات التاريخ البعيد ضدُ مظالم الملك العضوض وزبانيته ومرتزقته، ضد زحف المغول والتتار، ضد مؤسسات الحكم اللاديموقراطية، ضد التخلف الحضاري وغياب التجديد والإبداع، ضد وضد إلى مالانهاية؟ فهل هذه شعوب تستأهل الذم والهجاء واليأس من مستقبلها ومن شبابها؟
وهل يراد للملايين العرب الشهداء الذين ضحّوا في سبيل رسالات السماء ونداءات الأنبياء وألق الحرية وكرامة الإنسان وعدالة الحياة وأخوة البشر والمساواة في الفرص، هل يراد لهم أن يبكوا في وحشة وسكون قبورهم حسرة على مابذلوا وضحُّوا؟
ثم، ألا تكفي أصوات الخزي والعار من خدم السلطان والمال والجاه الشًّامتين الرَّاقصين على أوجاع ومآسي الآخرين حتى نضيف إليها أصوات اللطم واليأس والانسحاب الذليل؟
من هنا الأهمية القصوى ألايقف المؤمنون بقدرات شباب العرب الهائلة، بسخائهم في بذل التضحيات، بأحلامهم بأن يعيشوا في عوالم الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية، بحقّهم في تكافؤ فرصهم وتساوي مواطنيتهم، في كل ذلك وأكثر، ألا يقفوا متفرًّجين وهم يرون جحافل الشًّماتة واليأس تنعق، سواء بقصد أو بغير قصد، وذلك بدلاً من أن ينشد هؤلاء المؤمنون بشباب الأمة أناشيد الحياة والأمل والصُّعود والفرح والصّبر .
مايحتاج هؤلاء الشباب أن يسمعوه ليل نهار هو مافجًّروا به ثوراتهم وحراكاتهم: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر" . هم بحاجة، وهم يستعيدون أنفاسهم، أن يسمعوا ماقاله شاعر إيرلندا سيموس هيني: مرة في حياة الإنسان تصعد موجة العدالة التي كانت شوقاً عند ذاك، يتناغم الأمل والتاريخ . نعم ويتحرك التاريخ إلى الامام ويصعد إلى الأعالي .
منذ خمسين سنة وقف الزعيم العمالي البريطاني الشهير هيو جيسكل يخطب في مؤتمر حزبه : هناك منا من سيحاربون، ويحاربون، ثم يحاربون مرة أخرى لإنقاذ الحزب الذي نحب . في ساحات محن بلاد العرب الحالية لينشد شباب العرب بأنهم سيحاربون، ويحاربون، ثم سيحاربون مرة أخرى لإنقاذ انتفاضة أمتهم التاريخية عبر وطنها العربي الكبير، ورغم كل المعترضين المولولين اللاطمين .

د . علي محمد فخرو

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"