الحرف اليدوية.. الغائب الحاضر

شكلت عصب حياة الأجداد
01:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
تحقيق: فدوى إبراهيم

عرفت حياة الإماراتيين في الماضي ببساطتها، إلا أن تلك البساطة لم تعن في يوم من الأيام إلا الكثير من الجهد والبذل لأجل الحياة، فكثير من الحرف خلقها أصحابها لتلبي متطلباتهم بأبسط الإمكانات والأدوات، وكانت مصدر رزق، وطريقة للعيش، لكن أغلب تلك الحرف لم نعد نشهدها لتطور الزمن، واندثارها يدعونا لنستكشف كيف كان حال تلك الحرف، وكيف يمكن أن نحيي صورها في أذهان من لم يشهدوها.
يقول الدكتور سعيد الحداد، باحث ومدير فرع كلباء في معهد الشارقة للتراث، إن الحرف التي امتهنها أجدادنا جاءت وفق ظروف ومتطلبات الحياة، خلقناها نحن، ولكننا نسيناها، فقد كان لتلك الحرف عوائل تمتهنها وتبرع فيها، لدرجة أن أصبحت العائلة تلقب بالحرفة، وهو ما ينطبق على لقبي الشخصي، وتلك الحرف كانت أبرز ميزاتها هي تفاني أصحابها فيها، وإتقانهم لها، وعملهم الجاد عليها، فلا يمكن لأحدهم أن ينتج شيئاً ما لغرض تجاري بحت، بل كل ما ينتج هو نتاج كدح، وبذل، وعطاء. ويقول الحداد: كان الحرفيون في شتى المهن القديمة أصحاب عقول وافرة، يعملون بإتقان على ما يقومون به، ولم تكن مهنهم بالسهلة، أياً كان نوعها، فكانوا يخلقون شيئاً من اللاشيء، ولا يمكن وصف أحدهم بأنه كان نجاراً مثلاً، أو حداداً، أو صفاراً، فتلك الحرف وغيرها كانت مهناً صعبة للغاية، ولا بد لو أردنا التعريف بها أن نعرف طريقة عملهم عليها، ونتاجهم المملوءء بالإتقان.

سفن القلافين

يشير الحداد إلى أن التعريف بالحرف القديمة لا بد أن يبدأ بتولي الجهات المعنية الأمر، من خلال استثمار وجود عدد من أصحاب الحرف القديمة، والتعرف إلى تفاصيلها منهم، ونقلها وتدريب الشباب عليها، ومن الممكن الخروج بنتائج مميزة، فالسلع التي كانت تصنع سابقاً تتميز بجودتها، السكين يعيش سنوات، والأعمال المصنوعة من سعف النخيل تتحمل الحر والبرد فترات طويلة أيضاً، وسفن القلافين كانت من أقوى السفن، لذلك نحن بحاجة لجهات تتولى الأمر بجدية لأننا اليوم لا نجد ذِكراً لتلك الحرف إلا بين صفحات الكتب.
ويشير فهد المعمري، الباحث في التراث ومدير إدارة الآداب بالإنابة في هيئة دبي للثقافة والفنون، إلى أن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها اليوم في الإمارات، والتحول السريع الذي قادنا له ظهور النفط، وبناء الدولة، وتسارع التطور فيها، إلى اختفاء مهن كانت أساس عيش آبائنا وأجدادنا، بل هي مهن مرتبطة بحياتهم اليومية وحياة غيرهم، وذلك التحول السريع الذي شهدناه كان سبباً في اختفاء تلك الحرف كلياً لارتباطه بنمط الحياة آنذاك، ويوضح قائلاً: «هنالك مهن لا يمكن أن نعيشها لكونها مهناً ارتبطت بطبيعة الحياة قديماً، مثل سقاية الماء «الهاويه»، و«المطوع»، و«البناي»، و«الجفير»، وغيرها الكثير، ذلك أن ضرورة وجودها ارتبطت بذلك الزمن، واليوم لدينا بدائل عصرية لها، لكن ما يمكن الحديث عنه هو كيف لنا أن نعرّف الجيل الجديد بتلك الحرف؟ ليس ذلك فحسب، بل إنه حينما نتحدث عن الجيل، فإننا نقصد فيه حتى بعض أباء أطفال اليوم، أي من هم من مواليد الثمانينات، فمنهم من لا يعرفون تلك الحرف، لأنهم لم يعيشوا زمنها، وهنا نحن أمام أمر صعب يضعنا أمام حقيقة أن علينا أن نقدم تلك الحرف بشكل يقربها من الحقيقة.

مادة تراثية

وينوه المعمري بأن إحياء الحرف التي اندثرت بفعل التطور، يكون من خلال شقين أساسيين، الأول يرتكز على دور المؤسسات الثقافية القائمة على المهرجانات والأيام التراثية، وحتى المدن المجتمعية، بينما الشق الآخر يتمثل في الجهات التربوية، سواء كانت المدارس، أو الأسر.
ويضيف: أرى أن تخصيص مادة لتدريس تراث الإمارات ضمن المنهج التعليمي بات ضرورة ليتعرف ويتعلم الأطفال عن مهن آبائهم وأجدادهم، وجهودهم التي قامت عليها هذه الدولة، فتلك الحرف لم تكن مجرد مهن كما يمكن أن توصف، فكل منها يحمل الكثير من الفكر والجهد والتفاصيل العامة والدقيقة، ولا يمكن أن نختصر مثلاً مهنة الحلاق، أو ما يسمى آنذاك «المحسّن» بكونه شخصاً يحلق الشعر، إنما هو مضمد جروح، مداو، يختن الأطفال، ويقوم بالعديد من الحرف في مهنة واحدة، كذلك مهنة البناي الذي كان يقوم بحرق الحجارة لمدة معينة حتى يمكن تفتيتها، ومن تلك الفتات التي تخلط بالماء تصنع مادة البناء اللاصقة التي هي بمثابة الأسمنت اليوم، وكثير من الحرف التي كانت تتم بذات الصعوبة، هذه الصورة التي يجب أن تنقل لطلبة المدارس عبر الناهج، إضافة إلى التعريف الدقيق بالحرف حين زياراتهم للمتاحف.
وبدعوة من علي المطروشي مستشار التراث والتاريخ المحلي بدائرة التنمية السياحية في عجمان، زرنا متحف عجمان، للتعرف إلى الحرف القديمة بشكل تفصيلي.
يقول المطروشي إن تجسيد الحرف القديمة بتفاصيلها يعود الفضل فيه لمصممها الراحل إبراهيم محمد صالح العوضي، وهو أحد رجال عجمان الذي عمل مسؤولاً تراثياً في المتحف، إلى جانب عمله مديراً لجمعية الفنون الشعبية بالإمارة، واستطاع بخبرته الواسعة في التراث المحلي أن يحفظ لنا الشكل العام لكل مهنة قديمة.
في المحافل التراثية المحلية نجد أنفسنا دائماً أمام الحرف الأساسية التي كان يعتمدها الناس آنذاك للعيش، وكانت بعضها تشكل جزءاً من الاقتصاد المحلي حينها، وهي مهن الغوص على اللؤلؤ، والتجارة، والصيد، إضافة إلى الحرف المتعلقة بالنخيل، سواء تموره، أو الصناعات المأخوذة عن سعف النخيل، وأخشابه، لكننا قد لا نولي اهتماماً كبيراً لمهن أخرى كانت في حقيقتها من أهم الحرف التي يعتمد عليها في الحياة اليومية في تلك الفترة.
في قسم السوق الشعبي الذي يزخر بالحرف التقليدية، اطلعنا على أبرزها، من بينها مهن القطان، الحطاب، الخياط، الحداد، المحسّن أو الحلاق، الصفار، إضافة إلى مهن ارتبطت بالمأكل كالخباز والمحلوي، أي صانع الحلوى، والعطار، ويشهد قسم الطب الشعبي الذي يعبر عن تصورات الناس حول الصحة والمرض ووسائلهم في العلاج، الكثير من التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن التعرف إليها إلا من خلال مرشدي المتحف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"