عن أخبار الموتى

رؤية
13:00 مساء
قراءة دقيقتين

تماماً كما فعل أنطون تشيخوف قبل حين من الدهر هاهو الروائي الأرجنتيني جوزيه ساراماجو يكرر ذات الموضوع ويستعيد ذكرى موتاه ممن تحولوا إلى ملفات في دواليب مصلحة الأحوال الشخصية.. فإذا كان انطون تشيخوف سخر من حال الأحياء العقلاء في قصته الطويلة عنبر رقم6 فإن ساراماجوا اعتلى بموتاه وجعلهم كالأحياء!

في عنبر رقم 6 نقرأ عن حال المفكر الفيلسوف ايفان الذي وصلت قناعاته المتطيرة إلى حد افتراض انه يمكن أن يتهم بجريمة قتل. ربما لتشابه اسمه مع أحد الأسماء المطاردة من قبل البوليس.. وربما لأسباب قانونية ملتبسة، كثيراً ما تحصل في عوالمنا حيث يتم زج الأبرياء في السجون وتؤخذ منهم الاعترافات قسراً وتعذيباً حتى يعترفوا بما لم يفعلوه لأنهم يفضلون راحة الموت على العذابات التي يلاقونها في تلك السجون.

استتباعا كان لابد لايفان أن يصل إلى العنبر السادس في مستشفى المجانين لأنه قام بجريمة تجريد الحقائق من أوراق السلوفان المزيفة، واكتشف في ذاته كيف يتم تعطيل القوانين أو تكييفها على مقاسات السلطة الغاشمة.

جوزيه ساراموجو ذهب إلى ذات البعد حينما كتب روايته بعنوان كل الأسماء، وقد جاءت فكرة كتابة الرواية إثر اكتشافه حقيقة طريفة وتراجيدية في آن واحد.. فأخوه الذي مات منذ عقود من الزمن لم يكن مسجلاً في سجل الأموات بل في سجل الأحياء! وبالتالي فان أي وثيقة عائلية ثبوتية لصالح أهل الميت حقيقةً والحي وثائقياً تتطلب تصحيح هذا الوضع من خلال إعادة إحياء ميتهم وثائقياً!!، ثم تسجيله بوصفه قد مات الآن!!.. هكذا حلت الأوراق محل الحقيقة وهكذا بدت غرائبية الحياة التي يمكن منحها أو منعها بموجب ورقة إجرائية محفوظة في سجل الأحوال المدنية.

ذهب ساراماجو إلى مصلحة سجل الموتى والمواليد الجدد ودرس الوضع هناك فاكتشف أن حظوظ الموتى في الأرشيف يتكابر ويتعملق أكثر من حظوظ المواليد الجدد ممن تخصص لهم العتبات الأولى في أرشيف المصلحة باعتبار أنهم سيلتحقون يوماً ما بالموتى، وسينعمون بذات المساحات الواسعة والدهاليز الرطبة لسجلات أسلافهم الميتين!.. كما رأى أن تلك الاراشيف الغرائبية وموظفيها المتقادمين أصبحوا يعيشون زمناً آخر يمكن تسميته بزمن الموتى / الأحياء.

يضعنا ساراماجوا أمام حالة عبثية. بل حقيقة باردة كثيراً ما لا نراها نحن الأحياء.. الأموات عما قريب.. تماماً كما لا يسعنا أن نرى موتانا الذي نشاهد صورهم الفوتوغرافية وتسجيلاتهم الصوتية والسينمائية.

كانت جدتي قد بلغت من العمر عتيا وبدلاً من الإصابة بالزهايمر المعهودة لدى كبار السن كانت تزداد ألقاً في الذاكرة، وقدرة استثنائية على المُحاججة والمجادلة.. غير أن نقطة ضعفها الوحيدة تمثلت في مخاطبتها لموتى العائلة.. فقد تسأل من يأتيها بعد حين عن أخبار موتانا.. كأنها تسأل عن أحوال جماعة انتقلوا إلى مدينة أُخرى!

لقد بلغت جدتي نقطة التماس المعنوي والوجودي بالحقيقة الأزلية وانتقلت قبل الأوان إلى برازخ الحياة الأُخرى..بل كانت تتوق إلى اللحاق بمن تركوها من أبنائها وبناتها وأقاربها وتتعجل السؤال عنهم كأنهم يعيشون حياة غير أرضية موازية لحياتها.

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"