صدام الروايات العنصرية

03:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
حلمي موسى

عادت العلاقات البولندية - «الإسرائيلية» إلى التدهور من جديد بسبب الإرث التاريخي السيئ للعلاقة بين البولنديين واليهود، رغم شدة الشبه الأيديولوجي والعلاقة السياسية حالياً، بين الحكومتين. وقد تجلى هذا التدهور في إلغاء عقد قمة فيشجراد (V4) في «إسرائيل» التي تضم، إضافة لبولندا، كلاً من هنغاريا والتشيك وسلوفاكيا، ومطالبة بولندا للاحتلال بتقديم اعتذار رسمي على اتهامها باللاسامية من جانب قادة «إسرائيل».
لا يمكن قراءة هذا التدهور من دون التذكير بواقع أن الاحتلال، وبعض دول أوروبا الشرقية، تعيش تحت حكم ائتلافات قومية يمينية ذات طبيعة عنصرية. وهذا ما دفع الكثيرين في أوروبا والعالم إلى النظر للخلاف المتصاعد بين هذه الدول الحليفة للولايات المتحدة على أنه صراع بين أنصار الفكر العنصري الواحد.
وكان الخلاف بين بولندا و«إسرائيل»، بشكله الجديد، بدأ مطلع العام الفائت عندما حاولت الحكومة اليمينية في وارسو سن قانون «المحرقة» الذي يحظر على أي كان اتهام بولندا بمساعدة النازيين في الحرب العالمية الثانية. وكان اتهام بولندا والبولنديين بمساعدة النازيين أحد أهم دعائم الفكر الصهيوني بعد الحرب العالمية، وتجري تغذية هذا الاتهام بتنظيم الحضور السنوي لليهود من كل أنحاء العالم إلى المعسكرات النازية الباقية في بولندا كشاهد على التاريخ.
وعلى مدى السنين، وبدعم أمريكي، رفض الاحتلال، والمنظمات اليهودية في العالم، محاولات إزالة هذه المعسكرات التي أقامها النازيون على أرض بولندا المحتلة.
وضغطت «تل أبيب» بكل قواها مستخدمة الأدوات الأمريكية من أجل ثني بولندا عن سن قانون «المحرقة»، إلا أن «العزة القومية» البولندية تصدت لهذه الضغوط. والنجاح الوحيد الذي حققته هذه الضغوط إزالة بند العقوبات بالسجن لمن يدان بانتهاك هذا القانون. وكان رئيس الحكومة البولندية برر تمرير القانون بإعلانه أن بولنديين ويهوداً تعاونوا مع الاحتلال النازي ضد أبناء وطنهم. وفاقم هذا التبرير الخلاف مع الكيان الذي رفض قادته المقارنة بين تعاون البولنديين مع النازية، وتعاون اليهود معها.
وبعد وقت جرى تمييع الخلاف جراء الدور السياسي الموالي للكيان الذي تلعبه بولندا في الاتحاد الأوروبي، وفي الأمم المتحدة، ما أعاد العلاقات إلى طبيعتها بعد نشر «بيان مشترك» حول القانون من الحكومتين. وحينها اتهمت أوساط يهودية نتنياهو بالموافقة على «تغيير التاريخ» لمصالح سياسية ضيقة. وبعدها بلغت هذه العلاقات ذروتها في مؤتمر وارسو الذي لعب فيه الكيان دوراً محورياً، حيث زار رئيس الوزراء البولندي مع نائب الرئيس الأمريكي، ورئيس حكومة الاحتلال، في حفل كبير، النصب التذكاري لمتمردي جيتو وارسو اليهود.
غير أن ما في القلب يمكن أن يظهر ولو عبر زلة لسان. فقد أعلن نتنياهو في ذروة فرحه بمؤتمر وارسو، أن بولنديين تعاونوا مع النازية، وأن أحداً لم يعاقب بسبب قول كهذا، وهو ما نشرته صحيفة «جروزليم بوست» على أن «الأمة البولندية تعاونت مع النازية». وأغضب هذا القول الحكومة البولندية التي حملت على نتنياهو، وطالبته بالاعتذار، فنشر توضيحاً قال فيه إن «خطأ إعلامياً» وقع، وإن «بولنديين» وليس الأمة البولندية، تعاونوا مع النازية.
وقبل أن تقبل بولندا هذا التوضيح، وقامت بتوبيخ سفيرة «تل أبيب» في وارسو، أعلن وزير الخارجية «الإسرائيلي» الجديد، «إسرائيل» كاتس أن مجرد «ذكر المحرقة أمر لا يمكن التساهل فيه. لن ننسى، ولن نغفر. في الدبلوماسية يحاولون عدم الإساءة، ولكن ليس بوسع أحد تغيير الحقيقة التاريخية: البولنديون تعاونوا مع النازية».
والواقع أن ما يجري بين الدولتين يسير وفق ما تمليه متطلبات الرواية القومية لكل منهما. وليس صدفة أن الخلاف احتدم بين الحكومتين في فترة انتخابية حاسمة تحاول فيها كل منهما إظهار طابعها القومي المتشدد، والحريص على حماية «الهوية». ولذلك ليس عبثاً أن تجد في الكيان قوى سياسية مختلفة مع الليكود، مثل زعيم «يوجد مستقبل»، يائير لبيد، يرحب بكلام كاتس عن البولنديين. إذ كتب على حسابه في تويتر: «كنا بحاجة إلى وزير خارجية يقول الحقيقة من أول يوم. فطوال أربع سنوات لم يقل رئيس الحكومة بصوته إن سبب مساعدة البولنديين للنازيين هو أن اللاسامية مكون أساسي في المجتمع البولندي. هذه حقيقة تاريخية مؤلمة. ليسوا هم من يعلمنا ما هي اللاسامية».
كما أن وزير التعليم ورئيس حزب «اليمين الجديد»، نفتالي بينت، قال إنه «محظور تغيير التاريخ» من أجل عدم المس بالعلاقات بين الدول.
ومعروف أن دول فيشجراد التي يقيم الاحتلال معها أفضل العلاقات السياسية تحكم من قبل أحزاب وائتلافات يمينية في الأغلب. ويعاني الاتحاد الأوروبي نفسه من هذه الائتلافات التي يرى أن بعضها يلحق أشد الضرر بالديمقراطية، كما أنها تمارس سياسيات عنصرية ضد المهاجرين الأجانب.
وتستغل حكومة الاحتلال عموماً، واليمين اليهودي خصوصاً، المحرقة النازية والتأييد الأمريكي الأعمى لها كرافعة في مواجهة الأوربيين للضغط عليهم في الاتجاه الذي يخدم مصلحتها. وكثيراً ما تتهم أجهزة الاحتلال الأوروبيين باللاسامية إذا ظهر منهم أي ميل للاصطدام بالاعتداءات «الإسرائيلية» على الفلسطينيين والعرب.
وإذا كان «قانون المحرقة» البولندي الذي كان أيضاً سبب التدهور الجديد عنصرياً تبغضه أحزاب اليمين اليهودي، فإن هؤلاء ليسوا في موضع تلقين الآخرين دروساً في الأخلاق. وتكفي نظرة واحدة إلى جملة القوانين التي سنها الائتلاف اليميني من «قانون القومية»، إلى «قانون النكبة»، إلى «قانون الإعدام»، ليشهد على درك العنصرية الذي وصل إليه الاحتلال. ورغم ذلك يتواصل الحديث عن الجيش «الأكثر أخلاقية» في العالم، وتأكيد الانتماء إلى عرق أطهر وأنقى من أعراق المنطقة العربية.
وليس صدفة أنه في ذروة السجال مع بولندا حول اللاسامية، وبغض الأجانب، قاد نتنياهو حملة لتوحيد أحزاب يمينية عنصرية من أجل ضمان فوز اليمين. وحتى «إيباك» انتقدت حملة نتنياهو هذه التي وحدت البيت اليهودي مع جماعة كهانا العنصرية. ولكن لا شيء يميز العنصريين أكثر من الوقاحة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"