قال كلمته للتاريخ ومضى

01:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

بقدر وضوح مواقفه اكتسبت سيرته السياسية استقطاباً حاداً، معه أو ضده، بلا مساحات رمادية. وبقدر رحابة صفاته اكتسبت سيرته الإنسانية ما يكاد يشبه الإجماع على محبته بين كل من عرفه، اقترب منه، أو عمل معه.
 ما بين السياسي والإنساني بدت رحلة «ياسر رزق» المهنية عنواناً على صحفي استثنائي نجح في تجديد شباب الصحف والمجلات التي ترأس تحريرها، أو مجالس إدارتها، طور مادتها وتبويبها وإخراجها، وسع مساحة الحرية فيها إلى أقصى ما يستطيع، ورفع أرقام توزيعها إلى مستويات قياسية.
 عندما رحل لم يكن بوسع أحد من أهل مهنته، أن ينكر عليه حقه أنه «ألفة جيله» وأكثرهم تأثيراً في مجريات الحوادث العاصفة بين ثورتي «يناير» (2011) و«يونيو» (2013).
 أسندت إليه رئاسة تحرير جريدة «الأخبار» المصرية العريقة قبل أن تهب عاصفة «يناير» بأسبوع واحد. كان ذلك موعداً مع القدر لم يرتب له ولا خطر بباله.
 صعد إلى منصبه بكفاءته المهنية وحدها، التي مكنته من قيادة مجلة «الإذاعة والتلفزيون» إلى موقع أكثر المجلات المصرية توزيعاً وتأثيراً فيما كان محلها المختار قبله صالونات الحلاقة لقطع وقت الزبائن حتى يحل دورهم!
 فور أن صعد إلى موقعه الجديد، قبل هبوب العاصفة، اجتاحت ردهات مؤسسة «أخبار اليوم» آمالاً واسعة في التجديد والنهوض ثقة في كفاءته المهنية وقدرته على إجراء المصالحات بين أجيال المؤسسة العريقة ورد الحقوق المهضومة إلى أصحابها دونما ثأر أو انتقام.
 لم يتردد في دعم الثورة لحظة اندلاعها، لا تردد ولا تلعثم، وبدا مستعداً أن يدفع الثمن إذا لم تنجح بإطاحة نظام «حسني مبارك».
 هذه حقيقة يمكن التأكد منها بمراجعة أرشيف الصحيفة، وقد أورد صوراً لبعض صفحاتها الأولى في كتابه «سنوات الخماسين- بين يناير الغضب ويونيو الخلاص»، الذي أصدره قبل رحيله بأيام قليلة، كأنه يودع كلمته للتاريخ قبل أن يمضي.
 بعلاقاته التي تأكدت بمضي السنين مع قيادات القوات المسلحة مندوباً عسكرياً للصحيفة وجد نفسه في قلب الحوادث، بالقرب من مركز القرار الجديد، وقريباً بالوقت نفسه من تياره السياسي حيث كان طالباً في كلية الإعلام بجامعة القاهرة منتصف ثمانينات القرن الماضي أميناً لتنظيم نادي الفكر الناصري.
 لم يتنكر لثورة «يناير» «بأي وقت ورفض بدأب أن يصفها ب «المؤامرة». هذه حقيقة أخرى سجلها في شهادته الأخيرة.
 تتفق أو تختلف معه فهو رجل مستقيم وشجاع، يعلن مواقفه في وقته من دون أن ينتظر أن تنجلي الزوابع من حوله وتتضح موازين الحكم وخياراته.
 كتب على صفحات «الأخبار» يوم (11) مارس (2012) مبكراً وبلا تردد: «الصدام قادم بين الجماعة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة ما لم تلحظ الأضواء الحمراء وتصغي إلى أجراس الخطر: هل يريد الإخوان الحكم أم التحكم؟!».
 الأرشيف حاضر حتى يحصل الرجل على حقه من الإنصاف، وقد وجد نفسه مطروداً من موقعه فيما كانت الجماعة تحكم قبضتها، أو تكاد على مقاليد الأمور في مصر.
 على خلفية كفاءته تسابقت أكثر من صحيفة يومية خاصة على أن يتولى رئاسة تحريرها. مكّنه موقعه الجديد على رأس صحيفة «المصري اليوم» من منصة جديدة أكثر حرية من المنصات الرسمية، طرح المسكوت عنه من أسئلة، محذراً من عواقب السياسات التي تتبعها الجماعة وما يمكن أن تجره على البلد من صدامات وصراعات واحترابات أهلية.
 في ذلك الجو المحموم كتب يوم (12) مارس (2013): «أرى وهج انفجار يشعل فتائله نظام حكم بائس: متى ينزل الجيش؟».
 لم يطلب أحد منه أن يكتب ما يكتب، ولا أن يحذر بالنيابة، هذا ما كان يتوقعه ويستنتجه من الأجواء المأزومة التي يراها بعينه تتفاعل أمامه. في وقته وحينه تابع ك«صحفي» ما يجري حوله، حاور وكتب منحازاً إلى ما يعتقد فيه.
 بعد إطاحة الجماعة في (30) يونيو (2013) عاد إلى موقعه الأثير عام (2014) على رأس مؤسسة «أخبار اليوم» رئيساً لمجلس الإدارة ورئيساً للتحرير.
 كل ما كتبه، بالاتفاق أو الاختلاف، عبر عن حقيقة توجهاته ومواقفه، لم يكن بوقاً يردد ما يُملى عليه، تملكه شعوره بالكبرياء وأنه ندّ لا تابع، وأن الأثمان التي دفعها تشفع له في رد كل من يتصور أن بوسعه توجيهه ب«الريموت كونترول».
 مانع في اقتحام نقابة الصحفيين داعياً على الفضائيات إلى إقالة وزير الداخلية في ذلك الوقت، رفض أن يشارك فيما سُمّي «تصحيح المسار» الذي بدا انقلابياً في بنية المؤسسات الصحفية وطبيعة أدوارها، قال صريحاً: «لن أخون أصدقائي ومبادئي»، فقد كان لدورتين نقابياً نشطاً ومحبوباً. كان الثمن عزلاً جديداً في ظل نظام بشّر به، لكنه لم يغير أفكاره ولا تنكر للأدوار التي لعبها.
 رغم ما أورده في كتابه من شهادات موثقة فإنه لم يستوفِ كل ظلالها، ولا تطرق إلى ما ينصفه في التاريخ من استقلال في الرأي وندية في التصرف.
عندما طالعت كتابه بعد رحيله، بدا أمامي كأنه يتوقع الموت، وأن الزمن لن يتيح له فسحة حياة تستكمل شهادته على التاريخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"