التنبؤ الاقتصادي ضروري

22:26 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة *
هنالك دول تنجح سياسياً واقتصادياً وأخرى تفشل لأسباب لا تظهر علناً. المبررات تكون غائبة أو غير ظاهرة لكنها لا بد أن تكون موجودة. معرفة أسباب النجاح كما ظروف الفشل أساسية لتجنب الخسائر وتقوية الفوائد أو تعزيز حصولها. من أهم ما يحاول الاقتصاديون فعله هو التنبؤ بالأوضاع المستقبلية للاقتصادات المختلفة. غالباً ما نخطئ ليس فقط بسبب صعوبة العمل وإنما خاصة لمحاولتنا الاتكال على الماضي للتنبؤ بالمستقبل. بالرغم من الأخطاء الواضحة والمثبتة، علم التنبؤ يبقى مطلوباً من جميع القيادات السياسية والاقتصادية لعله يضيف بعض الضوء الى المستقبل المجهول. إذا كان من غير الممكن توقع المستقبل بدقة، هنالك مؤشرات يمكن الاتكال عليها لتوقع تحسن أو سقوط الأوضاع مستقبلاً. التنبؤ القريب يبقى أصعب من البعيد المدى حيث تتغير الأمور لتلغي بعضها بعضاً نتيجة التطورات في الأسواق.
من الضروري أن نكون مقتنعين بأن للاقتصادات مسيرات مختلفة ومتقلبة أي أن هنالك عوامل مؤثرة مشتركة كما أخرى فريدة وقوية لها طابعها الإقليمي أو القطاعي. لذا يجب أن يعتمد التنبؤ على كل هذه العوامل لتخفيف الأخطاء. تمر كل الاقتصادات في فترات ازدهار وهبوط ربما دورية تترك آثاراً واضحة في النتائج. هنالك أمثلة عدة لدول كانت ناجحة وسقطت. الفلبين مثلاً، كانت في الستينيات مضرب مثل للنجاح الاقتصادي. لذا اختيرت مقراً للبنك الآسيوي للتنمية كشهادة بل اعتراف عالمي بنجاحها الفريد. سقطت الفلبين في ما بعد بسبب السياسات الخاطئة كما بسبب الفساد الكبير الذي عانته بدءاً من حكم الرئيس السابق فردينان ماركوس. لبنان كان من الدول الناجحة جداً حتى سنة 1975 وكان مضرب مثل للاقتصاد الحر الفاعل. أتت الحروب من أهلية وغيرها إضافة الى الفساد الكبير وسوء الإدارة لتسيء جميعها الى واقع ومستقبل البلد.
من منا لا يذكر دولة الاتحاد السوفييتي ومئات الدراسات التي توقعت أن اقتصادها سيكون الأكبر والأفعل في العالم خلال عقود قليلة. ماذا كانت النتيجة؟ سقوط الاتحاد السوفييتي وتحويله الى دول عدة مستقلة أهمها طبعاً روسيا. معظم مراكز الأبحاث توقعت بدءاً من سنة 2000 ومع ازدهار ما سمي ب«الاقتصاد الجديد» أن يستمر النمو العالمي وأن لا عودة الى الركود والانحدار. فالطريق عالمياً هو في اتجاه واحد صعودي. لهذه الأسباب توقعت الدراسات أن تلتقي اقتصادات الدول الناشئة مع الصناعية خلال عقود وأن يغيب الفقر الشديد عالمياً. ماذا حصل؟ ازداد التباعد بين المجموعتين الصناعية والناشئة كما أن الفقر غزا ليس فقط الدول الفقيرة وإنما بعض جوانب الدول الغنية أيضاً. تلاشى التفاؤل بشكل كلي عندما بدأت أزمة 2008 أي الركود الكبير وتضرر الاقتصاد العالمي بشكل كبير.
هل نتذكر الأطروحات التي عمت العالم حول «البريكس» والتي ضمت الاقتصادات الكبيرة ذات المستقبل الواعد أي البرازيل، روسيا، الهند والصين وهنالك من أضاف اليها دولة جنوب إفريقيا لتعميم النجاح على معظم الكرة الأرضية. البريكس في وضع اليوم لا يحسد عليه والكورونا ليست السبب الوحيد. إذا كان متوقعاً للصين أن تنمو في 2022 بنسبة 4.4% والهند 8.2%، فالتوقعات للبرازيل ليست جيدة أي 0.8% ولروسيا 8.5% مع الحرب الأوكرانية ولجنوب إفريقيا 1.9% علماً بأن مستوى النمو العالمي ل 2022 هو 3.6%. هذه توقعات صندوق النقد الدولي التي تخطئ كغيرها، لكن العالم ينظر اليها كمؤشرات مهمة. قال حاكم المصرف المركزي الهندي السابق «ريدي» إن مستقبل الهند دائماً متقلب وصعب التنبؤ، لكن الماضي أيضاً غير مفهوم مما يشير الى أن التفسيرات السابقة لا تظهر الحقائق ربما بسبب السياسة وتنوع الهند بكل المعايير ربما أكثر من أي دولة أخرى.
ليس هنالك عامل واحد قوي يمكن أن يغير المسيرة الاقتصادية للدول. إن تطور أي اقتصاد هو آني وليس دائماً. النمو السليم المتواصل هو استثناء وليس القاعدة. الأزمات والتقلبات هي المسيرة الطبيعية، وهذا ما تشهد عليه كل الفترات خاصة الطويلة. المطلوب من الذين يقومون بالتنبؤ أن يقتنعوا بأن المستقبل لن يكون على صورة الماضي وبالتالي تصوير المستقبل على أنه امتداد للماضي خاطئ. المطلوب في كل الدول تحقيق النمو المتوازن وليس بالضرورة النمو القوي المتواصل الذي يلغي في العديد من الأحيان الفقراء والمناطق البعيدة التي تبقى متأخرة وفقيرة.
ما هي العوامل التي يمكن أن تشير الى التطور المستقبلي لأي اقتصاد دون أن تحدد النسبة المئوية للنمو أو الركود؟ هنالك 3 مجموعات:
أولاً: العوامل الاجتماعية أي التطور السكاني كما السياسي والجغرافي. نسبة النمو تعادل نمو السكان زائد الانتاجية. من السهل معرفة الأولى بدقة لكن الإنتاجية معقدة وترتبط بعوامل عدة منها التكنولوجيا والتربية والقوانين والمؤسسات وغيرها. دور السكان والسياسات المرتبطة به متعلقة بتوزع العمل على النساء والمسنين وأصحاب القدرات المحدودة والمهاجرين والآليات. علوم الإنسان وأسباب زيادة أو نقص العدد مرتبطة بالصحة والطب والقوانين، وبالتالي تختلف من دولة الى أخرى. هل السياسيون مقتنعون بالإصلاح والتطور أم ما يهمهم هو فقط الحفاظ على مصالحهم حتى على حساب الشعب. في الجغرافيا، الى أي حد تتوافر العوامل المؤثرة كالمطارات والمرافئ وسكك الحديد والطرق الحديثة؟ جميعها مؤثرة بدرجات مختلفة.
ثانياً: العوامل الاقتصادية أي التضخم والنقد والدين العام وسوء العدالة الاجتماعية والاستثمارات. المطلوب تجنب سقوط النقد وما يتبعه من تضخم بسبب ارتفاع أسعار الواردات مما يؤذي الفقراء وأصحاب الأجور والطبقات الوسطى. تجنب الفوارق في الدخل والثروة أساسي ويؤثر كثيراً في الاستقرار الاجتماعي. المطلوب أن ترتفع الاستثمارات في الاقتصاد الى ما بين 25 و 30% من الناتج مما يسمح بتطوير البنية التحتية كما الفوقية من صحة وتعليم وغذاء وغيرها. الدين العام بالنقد الصعب هو دائماً مشكلة اذا ارتفع في بعض الدول الى حدود مقلقة أي فوق 90% من الناتج.
ثالثاً: العوامل الثقافية والتاريخية التي تميز الأوطان، أي هنالك دول تقوم بالاصلاحات بهدوء لاقتناع السياسيين والسكان بها. هنالك دول أخرى لا تنفذ فيها الإصلاحات الضرورية الا بعد «خضات» كبرى وربما ثورات عنيفة تفرض التغيير، أو وربما تفرض تدخل المجتمع الدولي للوصول الى النتيجة المرجوة. هنالك دول تتعلم من تاريخها أو حتى تاريخ الغير لتجنب «الخضات» والقيام بالإصلاحات الضرورية للاستمرار. كل دولة تمر بفترات صعود وانحدار، هذا هو حال العالم أجمع. المهم ألا تطول فترات السقوط ويأتي النمو ثم التنمية ليحلا مشاكل الناس والاقتصاد والدولة.
* خبير اقتصادي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"