القصيدة العمودية عتبة المجد

23:46 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

القصيدة العمودية نور الشعراء الداخلي، وصدى أصواتهم في الزمان والمكان، هي لغتهم البليغة، ومخترعاتهم المتفردة، وحياتهم التي تتصالح تحت ظل الشجر في هجير الصحراء، وهي النخلات الطوال.

لماذا هي القصيدة العمودية دون سواها بهذا العلو الذي يجعلها نباتاً طويل الأمد، ونجوماً لا تخفت أضواؤها، وحبّاً مسكوناً بالطيبة، وممتلئاً بنضرة الوهم والصدق والغضب والفرح، وولادة المستحيل؟. لماذا القصيدة العمودية عما سواها حافلة بالنماء والفن، والصعود إلى عتبة المجد، إذ كلما مضى الزمن تطول مقامتها وقامتها، فهي مفتاح لكل بلاغة، وكفاية عن كل تملق في اللفظ، واستحسان ما لا يروق من تفاوت في ميزان الحروف وكواكبه الواسعة، فالقصيدة العمودية عصية على النسيان، وهي منذ أن عرفها العرب وضبطوا أوزانها الحرة لم تعرف الفقر في معانيها ولا أفكارها، فهي في العالم القديم شاهدة على حياة العرب الاجتماعية والسياسية والفكرية والعاطفية والإنسانية والفلسفية، وقدمت صورة حقيقية للحضارة العربية، فقد تمثل اللغة العربية في ذاك العالم القديم وأخذ يكتب على أوزانها شعراء من أصول غير عربية، حتى غدت هذه الأصوات من الأعلام على مر العصور، ويكفي أن تستدعي الذاكرة بيتاً شعرياً قديماً حتى ينتعش الفؤاد، وترق القلوب، ويبتدئ حوار بين النفس يخلص إلى أنه لا حياة من دون هذه القصيدة بتراكيبها المبتكرة الغالبة في كل شيء، فقد بلغت في العالم القديم مبلغاً لا يتصوره عقل. كانت القصيدة العمودية حاضرة تحت أي شجرة في أي مكان، فكان يكفي أن يوجه الشاعر فكره نحو المعاني ويجانسها بالوزن حتى تخرج الأبيات منتصرة على المستحيل في غموضها وتوهمها الجميل، ونبل الأغراض، وسمو المقصد، فكأنها غمام يمشي، ورذاذ ينعش الوجوه في الحر القائظ.

ليس من السهل أن تعقد المقارنات بين القصيدة العمودية في الماضي وتجليها في الحاضر، فلكلٍّ سمات، ولكلٍّ جمال، ولكلٍّ رحلة خاصة مرتبطة بوقائع التاريخ وأحداث الزمان، وتقلب الفكر وطغيان الثقافات، لا يمكن قتل هذه القصيدة بالانسلاخ من القديم ومحاولة التخلص منه، فهي تعبر عن المجد العربي ومناخاته التي جعلت الشعر هو الوليمة التي يتعلق بها أهل الفصاحة والبلاغة.

القصيدة العمودية صالحة لكل ما يفكر به العربي، فهي تصور همه ونظرته للحياة وللمستقبل، وهناك أشياء يجب النظر إليها بعين الاعتبار، فقصائد الذين ماتوا من عظماء الشعراء أصداء لا تعرف إلا الخلود، والغياب بعيد عنها؛ لأنها ولدت من خيال نافذ، وثقافة عميقة، ورقص جميل على حبال اللغة، لذا لم تنكسر القصيدة العمودية ولم تعرف التواري في أي زمن، أما هي في عصرنا الحديث فإنها خاطفة للبصر، كسرت كل الحواجز، وتم اكتشافها من جديد بأرواح شعراء جدد، فاستحالت ذهباً لامعا، وأثراً خالداً، ونسماتٍ أخرى أقرب للغناء والبكاء، والنفائس والنقوش التاريخية المهيبة.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"